المقالات

إبراهيم أحمد الحسن يكتب : آدم كوي.. فارس (الجَنْبَة الشمال)

عندما كنت غريراً وصغيراً، (قبل أن أصبح مفتوناً بجيفارا وسولارا وجومو ونزار)، جاورت أسرتنا سيدة فارعة الطول، رسمت الدنيا على وجهها الوضيء البسّام، لوحة فيها كل ألوان الحياة وأدوات معاركها التي لا تنتهي من عُسر وُيسر.
اكتفت جارتنا السيدة الفارعة بنصيبها من الذرية، بابن واحد اسمته (آدم كوي). استغنت به عن مباهج الدنيا كلها. سعيدة به وحفية، تفاخر به الأنجم والكواكب.
يخرج آدم الذي يصغرنا صباحاً وهو يتأبّط حقيبته المدرسية المصنوعة من قماش مزركش الألوان، ولعلّها كان أغلى ما تملكه أمه من (كيس مخدّة) عزيزة عليها، نامت عليها الأحلام والرؤى.
تتدلّى شنطة القماش من كتف الصغير آدم وهو يقبض عليها بيده اليمنى ليضمها تحت جناحه الشمال مُسرعاً الخطى ليلحق بطابور الصباح.
لعلّ آدم كوي وهو يضم شنطته القماشية العزيزة إليه بحُب، كان يستدعي ذات الحب الذي أشعله الصاغ محمود أبوبكر في (الجنبة الشمال).
قال الراوي، إن محمود أبوبكر وكان ضابطاً في الجيش السوداني برتبة الصاغ – التي تقابل رتبة الرائد الآن – بعثته وحدته العسكرية ليقاتل ضمن قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بمدينة الكُفرة وكانت تُعرف وقتها بـ (الجنبة الشمال).
كان الصاغ محمود عريساً حديث عهد بجرّة العسل. ومع ذلك امتثل للأوامر العسكرية وغادر بالقطار إلى وادي حلفا ليسافر منها إلى الحدود الليبية، وخوفاً على قلب عروسه البض، كلّف شقيقته أن تخبرها بسفره.
ولأن الصاغ أودع حبّه في القلب الذي يحتل مكانته في (الجنبة الشمال)، أنشد في طريقه إلى القتال:
“زاهي فى خدرو ما تألّم/ إلّا يوم كلموه تكلّم/ حنٌ قلبو ودمعو سال/ هفّ بالشوق قال وقال/ كيف جهنم بتحرق الجنب الشمال/ قالو ليهو القطر تقدّم وكُفرة نيرانا زي جهنّم/ كم تألّم ما تكلّم إلّا تمتم فى المقال”.
ولأنني سمعت تسجيلاً نادراً وحديثاً لمُلهمة الصاغ محمود أبوبكر وأرملته، الزاهية في خدرها، السيدة آمنة مدني وهي تقول: “عليكم الله غنو الأغنية دي دايماً وخلوها في أضان الناس”، خلطت عليكم ذكرى حقيبة آدم كوي القماشية التي قبض عليها بحُبٍ على جَنْبِتِه الشمال، بجَنْبَة الكُفرة الليبية التي أهدت السودانيين (الزاهي في خدرو).
محمود أبوبكر، هو من غنّى له خضر بشير: “أيه يا مولاي أيهٍ/ من حديثٍ أشتهيه/ عسعس الليل فناما/ واكتسى الوادي ظلاما/ إن يكن صمتي رهيباً إن في الصمت كلاما”.
وهو الصاغ الذي صاغ صنو النشيد الوطني: (صه يا كنار وضِع يمينك في يدي). وهو من عرّفنا بأخلاق النجوم حين قال: “وعرفت أخلاق النجـومِ فكوكب/ يهب البيان وكوكب لا يهتدي/ وكويكبٌ جمّ الحياءِ/ وكوكـب يعصـي الصباح بضوئه المُتمرد”.
غادر الصاغ أبوبكر إلى الجنبة الشمال، وهو “يعصر” على حبه (الزاهي في خدرو). وضمّ آدم كوي حقيبته المدرسية إلى الجنبة الشمال. ولكلٌّ في جنبته حبُّ وشؤون!
دائماً ما كنّا نصادف آدم كوي مُسرعاً إلى المدرسة، يتأبط شنطة القماش العزيزة، ونلتقيه ساعة العصاري في دافوري ميدان البرقاوي الذي يجاور الضريح الشهير في مدينة الأبيّض.
وفي ميدان التاكا، أحد أشهر ميادين روابط كرة القدم في عروس الرمال، كان لآدم كوي صولات وجولات ورقصات.
كان ميدان التاكا يشهد عصر كل جمعة، مهرجاناً من الأفراح يشعل نوره أجناس السودان وأعراقه رقصاً وأغنيات.
يمور الميدان ويفور بتنوع فريد يستعرض فنون أركان البلاد وتعزف عنده الأرجاء والأنحاء والقبائل والعشائر والبطون، سيمفونية التعايش والتآخي.
يختلط في ميدان التاكا، الجراري بالمردوم والكمبلا بالعجكو وطمبور الشمال بربابة الجنوب. تعلو الصفقة لتقدح في القلوب الأشواق.
كنّا ننتقل من (دارة) إلى أخرى ومن نغم لآخر، ومن رقصة لأخرى. نتبتّل في محراب “حليوة يا بسّامة” و”اللوري حلّ بي ودّاني في الودي” و”الليلة غاب تومي”، وهي تنطلق من حناجر أصحابها طازجة دون رتوش.
تعلو (التويا) وتهبط كما حداء الإبل والجِمال والجَمال، ويتردّد دوبيت الرعاة ومردوم البقارة وحسيس الكبابيش وكرير الجراري شجواً وشجناً في رحاب ميدان (التاكا)، الذي جاء خصيصاً من كسلا ليستقر في قلب عروس الرمال، مستمتعاً بكل هذا البهاء!
كان آدم كوي يتنقل معنا من (دارة) إلى أخرى، يملأ خياشيم وجدانه بالفن الإنساني السوداني الرفيع، ثمّ دارت رحى الأيام لتطحن الطفولة والصبا و.. “إذا الأحباب كلّ في طريق”.
لم ألتق آدم كوي من يومها، إلا أن صورته لم تغب عن ذاكرتي وهو يتأبطّ شنطته المدرسية، ضاماً إياها إلى الجنبة الشمال. ثم وهو يتنقّل في رشاقة الفراشات بين حلبات الغناء الكردفاني الذي جمع وهضم ثقافات السودان الكبير.
آدم كوي الذي عرفته، لا يصلح إلّا أن يكون رسولاً للحب وللجمال والسلام، والسلام.
تُرى هل أغمض عيني لأفتحها على رفيق طفولتي (آدم كوي)؟!

مواضيع ذات صلة

عمار العركي يكتب: خبر وتحليل: – مجلس الشيوخ الامريكي ومجلس الشيخ الإماراتي

عزة برس

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: ايها السادة .. انتبهوا !!

عزة برس

أماني الطويل ومعطوب القول!! بقلم: عمر عصام

عزة برس

تقرير: 1140 حالة اختفاء قسري خلال عام من الحرب في السودان

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: دعوها فانها مأمورة ..!!

عزة برس

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: استفهامات بريئة جدا ؟!

عزة برس