مقال

في حفرة الشيطان بقلم : إبراهيم أحمد الحسن

طارت الكرة لتستقر داخل مصنع الزيوت المهجور طرف المدينة ، هذا آخر ما كان بتمناه عبدالمعين .. والان كيف الوصول الي الكرة ومباني المصنع يسكنها مارد من الجن . أو هكذا كان يتم تداول الاحاديث الهامسة والاساطير المنسوجة بقوة الشائعات وحبالها العنكبوتية بوهنها ودقة نظمها .ما كان امام عبدالمعين الا ان يدخل المبنى المهجور لاحضار الكرة، خوفاً من اتهامه بالتقصير من قبل اصدقائه وقد ائتمنوه علي الكرة ومستلزمات اللعب .
الدخول للمبنى كان مغامرة والمبني الذي لم يتجرأ احد علي الدخول اليه، تركه اصحابه دون حراسة وبلا غفارة نهباً للشائعات واساطير الحكايات صنع الخيال .
مذ سكنت اسرة عبدالمعين ذاك الحي العريق والشائعات تلاحق المصنع القديم والمهجور ، ولج عبد المعين المبنى من فتحة صغيرة جوار الباب الكبير والذي أُحكم رتاجه بجنازير وسلاسل وطبلة كبيرة صدئة تماماً ، دخل عبدالمعين الي هناك بين خوفين كبيرين الاول من اصدقائه الذين لن يظنون به خيراً اذا قال لهم ان الكرة طارت الي المصنع المهجور بفعل ركلاته المشهودة وان يكون عبدالمعين هو الذي يقول لهم ها هو ينتظر حضورهم ليدخلوا الي الشيطان في وكره ومكمنه جماعة كثيرة تهزم الشجاعة، والخوف الثاني من المبني المهجور والاحداث المجهولة على مسرح دهاليزه والمكن المعطل والالات الصامتة . عبد المعين ودثاره خوف ثم خوف، دلف الي مباني المصنع ، دخل علي نواح الريح واصطكاك الصرير ، لحظات مهيبة والحديد يلطم الحديد والواح الزنك المشروخة تتدلي من السقف ويلعب بها الهواء فيعلو الصفير ويتجاوب معه الشخير في ايقاع منتظم ووشيجة اشبه بسيمفونية نشاذ يقود الاوركسترا فيها شيطان مريد ، ماكينات ضخمة ملطخة بالزيوت وملوثة بالشحوم ، سال علي جنباتها وقود تحجر، انحدر ثم توقف وما انسكب بفعل التقادم بعد ان تراكمت فوقه طبقات من الغبار تلتصق به بلا فكاك فصنعت سطحاً سميكاً من الصدأ يستعصى علي صقل اوكسجين الهواء وتخاله جزء من حديد المكن ، دخل عبد المعين المكان يبحث عن الكرة .
ولانهم يخافون لعنتها يتجنب السكان المحليون في تلك المنطقة من اليمن بالقرب من صحرائها الكبرى في حدودها مع سلطنة عمان الحديث عن بئر برهوت او بئر الجحيم وفي قول آخر سجن الشياطين وتعتبر البئر التي هي في الاصل ظاهرة طبيعة لا تفسير علمي محدد لحدوثها وتكوينها وانما مرجعية من الاساطير والاقاويل القديمة الحكاوي تحيط بها لتجعل منها لغزاً محيراً عصي على التفسير فهي قعر الجحيم كما تقول الاساطير ، حتى إن الاهالي هناك يتجنبون الحديث او ذكر هذه الحفرة الغريبة التي يحيط بها الغموض وكل ذلك لانهم يخافون ان يلحق بهم أذى جسيم او سؤ او يصيبهم مكروه إن هم تحدثوا عنها أو اتوا علي سيرتها .
وحفرة الجحيم الاخرى وإن شئت قعرها !! التاريخ يدون اسباب عديدة لنشئوها فيرجع سبب تشكل هذه الحفرة كما تقول الروايات واساطير الحكايات عندما قام الجيولوجيون السوفيت من النفاذ الي قشرة صحراء كاراكوم بالقرب من قرية ديرويز، كانوا يبحثون عن الغاز الطبيعي ووقود الطاقة الذي كان وما زال يشغل العالم ، ولجوا اثناء تنقيبهم الي كهف طبيعي ممتلئ بالغاز وما ان عبثت به آليات التنقيب حتي انهار ثم اشعل الاساطير ناراً واشتعل ونشأت في الكهف حفرة الجحيم وقعر جهنم التي ما زالت مشتعلة يندفع لهيبها عنان السماء وتطلق غازاتها وسمومها في الغلاف الجوي ثم يقبع على حضيض دركها تفاعلات تنتج الاساطير، الخزعبلات، الأَكاذِيب والاعتقادَات الوَاهية. ثم بدأت تظهر حول الكهف وحفرة جحيمه احداث وظواهر خارقة ضخمتها الاساطير ونسجت حولها الروايات والقصص المرعبة والاحداث الخيالية أساطين من الخرافة تسير على قدمين.
بكل تأكيد ما كان عبدالمعين يعرف شئ وقتها عن الحفرتين ، حفرة الشيطان وحفرة الجحيم ، ما كان يعرف برهوت ، وما كان قد سمع ب قشرة صحراء كاراكوم ولا يعرف موقع قرية ديرويز في الاطلس ، فكان سجن الشياطين عنده مجهولاً وقعر جهنم ليس إلا الذي هو فيه الان يرتاده وجلاً خائفا ، فكل الذي كان يعرفه وهو يدلف الي المصنع القديم مضطراً لا بطل هو انه تسكنه زمرة من مردة الشياطين وجعلت منه الاساطير مكاناً ممنوع منه الاقتراب . عبدالمعين هنا كان كما الشاعر الحسين الحسن الذي ابدع حينما نظم ( آسيا وافريقيا ) وقال انه ما زار يوماً اندونيسيا ارض سوكارنو ولا شاهد روسيا الا انه برفقة السنا نظما اجمل اغنياته نشيد تترنم به الاجيال ، للوهلة الاولي لم يجد عبدالمعين الكرة في اي مكان في المصنع ازداد خوفه وسمع ضربات قلبه تتعالى ، والكرة مفقودة بين أجزاء المكن الموحش والجدران التي تكلم الريح وحفيفها . كاد عبدالمعين ومع ما به من شجاعة ان يستدير الي الخلف في هروب الي الامام ، فلم يكن يدرك الخطر الماحق الذي ينتظره بين المكن وهدير الرياح وصفير الاساطير في المكان فقد كان عبدالمعين هنا يخاف المجهول ويجهل المصير . طاف به خيال من المرأة العجوز التي كانت تسكن كوخ في طرف المدينة حيث لا قريب لها وعندما ماتت دفنها رجالات الحي بهمة الجيران ونخوة العُشرة ، الا ان بخيت التمتام جزم انه رآها تدخل المصنع في ذات الليلة التي واروها الثرى في صبيحتها عند المقابر القريبة ، اقسم بخيت التمتام انه شاهدها تلبس خرقة بالية وتتخذ من كفنها ثوب ، تحلق الناس حول بخيت وهو يحكي بقسماً مغلظاً انه وحين عودته من دار السينما في دورة العرض الثانية للفلم الهندي( الصداقة او دوستي) رأها امامه تخترق جدران المصنع القديم ، حينها قرأ المعوذتين (ونسى ابطال الفلم رامانت وموهانت ) ثم اطلق ساقيه للريح وخلفه كلاب الحى التي توزعت بين ملاحقته والوقوف عند باب المصنع القديم تنبح العجوز التي اخترقت الحائط واصبحت عند الكلاب اثراً بعد عين . تشم رائحة الحنوط ولا ترى العجوز . قال بخيت التمتام ان المرأة هجرت قبرها وجاءت المصنع لانها في صباها كانت تعمل هناك ولديها ذكريات تريد استعادتها مع رفيقاتها اللاتي سبقنها الي العالم الاخر . بخيت التمتام كان من عشاق الافلام الهندية ولذا لابد انه ومن نجر خياله جعل من موت المرأة العجوز فلماً هندياً اسكنها في نهايته المثيرة فسيح المصنع المهجور تعبث فيه مع رفيقاتها من الاموات .
بين الظلال والظلام والعتمة وبؤر الضؤ من اعلى المصنع الذي جعل كثير من الاجهزة والاليات والمكن داخل المصنع تتخذ هيئات لاناس وحيوانات خرافية واشجار من غابات متحجرة وقف عبدالمعين ينظر ، شاهد داخل المصنع زرافة واسد وديناصور وشجرة حراز وتبلدية ، ثم انه شاهدها هناك المرأة العجوز ترنو اليه بابتسامة تبدو تكشيرة من اسنانها التي تساقطت ولم يتبق منها سوى اثنتان في الفك الاسفل وواحدة لا غيرها في الفك العلوى ،اشاح عبدالمعين بوجهه بعيداً عنها ، تقدم خطوتين الي الامام ، رأى قطعة من قماش كفنها الذي قال بخيت التمتام انها اتخذته ثوباً ، رأى القطعة تتدلى وتلثم جانب وجهه تجمد الدم في عروقه وجحظت عينه واحدة حتى انها تكاد تخرج من محجرها بينما بقيت الاخرى مسبلة في ثباتٍ عميق ، مد يده يزيح قطعة كفن العجوز الميتة التي تدلت تلثم وجهه فاذا بيده تدخل الي عش من نسج العناكب خيوط تتدلى .. تتشابك .. نصبت شبكها تصطاد بها الحشرات ، اجنحة الحشرات وبقايا ارجلها وافرازات امعائها وخيوط العنكبوت المتشابكة صنعت في خيال عبدالمعين قطعة كفن تتدلى من السقف وتعود الي عجوز راها ترنو اليه من زاوية في المصنع المهجور . ازاح عبدالمعين نسج العنكبوت امام وجهه ثم طفق ينفض يده بضربات في الهواء من حوله ليتخلص من الخيوط التي احاطت بمعصمه تأبى فكاكاً كلما نفض يده ازدادت التصاقً بكفة يده ثم بساعده ترتع فيه وتصنع كتابات غريبة ورسومات لكائنات رأها تمرح بين المكن ، عبدالمعين ترك خيوط العنكبوت وكائنات المصنع الغريبة وشأنها متخذا طريق هروبه الي الامام فخرج مسرعا الي فناء الحوش الداخلي للمصنع وهناك رأها !! رأى الكرة ترقد بين كومة من الحشائش الجافة كأنها بيضة طائر خرافي في عش كبير ، مد يده التقط الكرة ، احتضنها ، ضمها اليه ثم انحني يدخل مبنى المكن عابراً المكان الي الخارج ، التفت ناحية المرأة العجوز فلم يجدها ، ولم يجد الزرافة ولا الاسد ولا الديناصور ولا شجرتي التبلدي والحراز ، بل وجد ماكينات كبيرة معطوبة وجاثمة في انتظار من يصلحها ويعيد اليها الحياة بعيداً عن الخزعبلات والخرافات ونسج الخيالات التي عجزت عن الابداع فطفقت تلوك الاساطير .
وجد عبدالمعين نفسه في الشارع مرة اخرى واصدقائه في الميدان ينتظرون بلا كرة ، رأوه يخرج من براثن المصنع محتضنا الكرة ورأهم ينظرون اليه بدهشة واعجاب وخوف، قذف عبدالمعين الكرة عالياً ثم تلقاها بركلة من رجله لتطير في الهواء وتسقط في الميدان وسط اصدقائه ، ترك الاصدقاء الكرة وشأنها هرعوا نحو عبد المعين ، حملوه علي الاعناق ونصبوه بطلاً صنعته الخزعبلات والاساطير والروايات المجنونة .

مواضيع ذات صلة

منى أبوزيد تكتب في هناك فرق – مُفارقة وطَنية..!

عزة برس

هناك فرق.. منى أبو زيد تكتب: “الشغل بالجاز”..

عزة برس

جلحة × كيكل بقلم: عمر عصام

عزة برس

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: أحمد البلال وحسين خوجلى .. وعدالة السماء !!

عزة برس

على كل.. محمد عبدالقادر يكتب: غباء (قحت).. (الكيزان و فرز الكيمان)

عزة برس

وھج الكلم .. د حسن التجاني يكتب:( الحياة بقت مسيخة)….!!

عزة برس

اترك تعليق