المقالات

سعد محمد أحمد يكتب : نظام متوحش لابد من أجر اجتماعي

يقول صاحب نظرية رأس المال كارل ماركس انه في الاقتصاد الرأسمالي تحدد الأجور من خلال صراع دائم بين العامل وصاحب العمل وفي النهاية تكون الغلبة لصاحب العمل الذي يستطيع أن يعيش من دون العامل لفترة أطول من قدرة العامل على العيش من دون عمل لدى صاحب العمل وبالفعل هذه هي النظرة الرأسمالية على امتداد العالم الرأسمالي وراهن السودان هو جزء من هذا العالم الرأسمالي.
فالمنظر الرأسمالي (ديفيد كاردو) يعتبر العمل سلعة تباع وتشتري مثل أي سلعة في الاقتصاد وهي تمتلك قيمة حقيقية أو طبيعية وقيمة سوقية ويشير أن القيمة الحقيقية أو الطبيعية للعمل هي القيمة التي تحتاج إليها العامل لتأمين القدرة على الاستمرار (المقصود بالاستمرار هو البقاء على قيد الحياة) والتكاثر وهذه القدرة على الاستمرار مرتبطة مباشرة بالقدرة على تأمين الأساسيات مثل القوت والسكن وغيرهما من متطلبات الحياة للعامل وأسرته، اما القيمة السوقية فهي قيمة الأجر التي يتم دفعها في الاقتصاد فعليا مقابل العمل، وهي تعتمد بشكل أساسي على قوانين العرض والطلب مثل أي سلعة أخرى في النظام الرأسمالي، فإذا كان عرض العمل أو مجموع ساعات العمل المتاحة في السوق من قبل العمال أعلى من الطلب الذي يحدده ساعات العمل التي يطلبها أصحاب العمل فإنه في هذه الحالة ينخفض سعر العمل أو أجر العامل في السوق.
ثمة معضلة شائكة تواجه السودان حول تصحيح أجور العاملين في القطاعين العام والخاص في النموذج الرأسمالي فإن أي حديث عن زيادة الأجور النقدية لن يوصل الاقتصاد الا الي دوامة تضخم. وهذه هي النتيجة التي وصلنا إليها بسبب السياسة الاقتصادية التي نفذها وزير المالية السابق البدوي السياسة التي شكلت جريمة في حياة الناس وقلبت الموازين وضخمت السوق وحرمت الناس من حياة كريمة كانوا يتطلعون إليها بعد الثورة، لكن ماكان يمكن العمل عليه هو زيادة الأجر الحقيقي الذي لا ممر إليه إلا عبر زيادة الإنتاجية في الاقتصاد، بمعنى أوضح من دون خلق قيمة إضافية في الاقتصاد لن تنعدل الأجور الحقيقية هذا الأمر يحتاج إلى وقت وخلاله قد تجد الدولة حلا في تقديم نوع آخر من الأجور وهو الأجر الاجتماعي الذي تغافل عنه عمدا الحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك تنفيذا لرغبات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على شعب مغلوب ومسلوب الإرادة على مدى ثلاثة عقود.
موضوع الأجور موضوع معقد تختلف على جوهره المدارس الاقتصادية اي أنها تختلف على تعريفه أيضا. وتسليمها بأن الاقتصاد السوداني رأسمالي فلا يمكن الحديث عن الأجور خارج هذا السياق حيث يتولى تحديد هذا الأجر صاحب العمل الذي يملك معظم أوراق القوة لكن يجب الأخذ في الحسبان أن الاقتصاد السوداني شهد أزمة بنيوية وتعرضت أسس النموذج القائم منذ نظام مايو (النميري) الذي بدأت فيه العملة السودانية انحدارها عام ١٩٧٦ وبداية فقدان قيمتها، وفي عهد الإنقاذ تعرضت إلى تشوهات واسعة لطالما كان النموذج الاقتصادي السوداني ريعيا بامتياز، إذ أدى إلى نفخ القدرات الشرائية مع إنفاذ سياسة التحرير عام ١٩٩٣ عبر استخدام الرساميل القادمة من الخارج وتنشيط سوق تجارة العملة ومع ترويج السياسات التحررية الريعية انفجرت فقاعة القدرة الشرائية للعملة السودانية ومعها تدمرت القدرة الشرائية للأجور أو ما يسمى بالأجور الحقيقية وظهر أيضا أن هناك جزءا وهميا من الاقتصاد قائما على قطاع مصرفي راكم الخسائر على مدى العقود السابقة فمجرد انكشاف الأمر عام ٢٠١٨ حجم الاقتصاد الحقيقي بأن المصارف متعثرة في إرجاع الودائع للمودعين حيث كانت الناس تبيت وتقف في صفوف أمام المصارف لسحب جزء يسير من ودائعه التي لم تجدها.
بناء هيكلة الأجور التي تبناها حكومة حمدوك أصبحت معضلة وخلقت تشويها أكثر وزادت الأزمة إلى مستويات تصعب معالجتها وخللا بنيويا في مسألة الأجور، وبما أن الاقتصاد السوداني هو جزء من النظام الرأسمالي العالمي كما أرادت له حكومة حمدوك فإن الأجور في السودان تتبع القواعد الرأسمالية في هذا النظام واليد العليا هي لصاحب العمل.
ما حصل في السودان هو الانهيار الاقتصادي أدى إلى انهيار قيمة الأجور الحقيقية في الوقت نفسه تسبب في إقفال الكثير من المؤسسات الخاصة ما خلق انعدام في التوازن بين العرض والطلب على العمل، فقد أصبح عرض العمل أكبر من الطلب عليه في السوق، ما أدى إلى انخفاض قيمة الأجور السوقية إلى ما دون قيمة الأجور الطبيعية (وفق تعريف ريكاردو) وهي ستبقى منخفضة حتى لو أضيفت إليها التعديلات التي تلجأ إليها صاحب العمل من بدلات دون الأساس في القطاع الخاص للهروب من دفع التزامات ضمان اجتماعي وضرائب وغيرها من ضمن تقنين الفساد.
بشكل عام تملك الدولة العديد من الأدوات التي تستطيع من خلالها التدخل في الأسواق الا انه في حالة الأجور النقدية اي الأجور المباشرة التي يتلقاها العاملين مقابل عملهم ليس لدي الدولة الكثير من الأدوات التي تمنحها قدرة التأثير في القطاع الخاص يمكن للدولة أن تتدخل من خلال رفع الحد الأدنى للأجور (ونادرا ما جرت تدخلات) من خلال هذه الأداة أكثر ما يمكن أن تفعله الدولة هو أن ترفع الحد الأدنى المسموح أن يتلقاها العاملين في السوق، هذا الامر ينعكس على هيكلة الأجور كلها لأن رفع الحد الأدنى يدفع العاملين في هرمية أعلى إلى المطالبة باجور أعلى وبالتالي ترتفع الأجور كلها الا ان هذا الامر قد لا يعني بالضرورة ارتفاع الأجور الحقيقية في الاقتصاد، اضطرار أصحاب العمل إلى رفع الأجور الاسمية لا يلغي قدرتهم على زيادة الأسعار بحجة ازدياد الكلفة الإنتاجية ما يؤمن لهم حفاظا على مستوى ارباحهم الرأسمالية في هذا السياق يمكن الإشارة إلى العلاقة التنافسية بين حصص الأرباح الرأسمالية والأجور وهي علاقة يرى فيها الاقتصاديون والاجتماعيون احد اسباب ازدياد اللا مساواة في المجتمعات وارتفاع الأسعار يعني تضخم أعلى ما يعني أن القيمة الحقيقية للأجور لن ترتفع إذ أن القدرة الشرائية للعامل ستبقى في نفس مستواها، كما أن رفع الحد الأدنى للأجور قد يعطي حافزية أكبر للقطاع غير النظامي وهو القطاع الموازي الذي لا يصرح للدولة عن أوضاع العمالة عنده ولا تستطيع الدولة أن تفرض عليه دفع الحد الأدنى للأجور، وبذلك يتحول رفع الحد الأدنى إلى أداة قد تسهم في زيادة حصة القطاع غير النظامي من الاقتصاد ما يعني خسارة الدولة للايرادات الضريبية وحرمان الكثيرين من حقوقهم، ومع الغياب التام للجنة العليا للأجور وفقدان البوصلة وغياب اي معلومة فإن الفوضى هي السمة بالنسبة للأجور داخل المؤسسة الواحدة أو بين أصحاب المهنة الواحدة وغياب المعيار في أجر العامل الشهري حيث لاتكفي الأجور مستلزمات العامل لمدة أسبوع فقط خاصة مع سيل انهيار سعر الصرف.
في موازاة النقاش المتعلق بتصحيح الأجور في القطاع الخاص برزت مسألة القطاع العام هنا تصبح المسألة مختلفة في آليات التصحيح، موازية القوة التي تحكم العلاقة بين أصحاب العمل والعمال، في النظام الرأسمالي تمنح مرونة أكبر لتصحيح الأجور في القطاع العام بينما يصبح الأمر شائكا فالعاملون في القطاع العام لم يواجهوا فقط صاحب عملهم اي الدولة بل سيواجهون أيضا كل أصحاب العمل الآخرين الذين غالبا ما يتذرعون بأن الدولة صاحب عمل فاشل انها وكر للفساد والرشوة وان كل أنفاق تقوم به لا يصب في مصالحهم مباشرة هو أنفاق تضخمي، انعدام المرونة في تصحيح أجور القطاع العام أدى إلى انكشاف العاملين في هذا القطاع على الفقر بشكل أكبر بكثير من أي شرائح أخرى، فقد فقدت أجور العاملين في القطاع العام قيمتها بشكل واسع وسط صعوبة اتخاذ قرار في الدولة لتصحيحها.
وسط هذه الأزمة الراهنة لابد من بحث طرق وطرح خيارات لمعالجة هذه الأزمة، فالاجر لايمكن ا تكون فقط أجرا نقديا يتقاضاه العامل مقابل عمله، فهناك يمكن أنواع أخرى من الأجور التي يتلقاها العامل مثل الخدمات التي تقدمها الدولة سواء بسعر مدعوم أو من دون مقابل، هذا النوع من الأجور يسمى بالأجر الاجتماعي، في الوقت الراهن قد لا يكون هناك حل مباشر للأجور النقدية من دون مفاعيل تضخمية إذ لا إمكانية لدفع الأجور صعودا من خلال الادوات المالية أو النقدية الا انه يمكن للدولة أن تقدم لجميع العاملين في القطاعين العام والخاص أجرا اجتماعيا يكون الأجر الاجتماعي عبارة عن تقديم خدمات الصحة والعلاج والتعليم بشكل مجاني أو مقابل أسعار مدعومة أو من خلال تقديم قطاع نقل ومواصلات عامة يخفف كلفة التنقل على العاملين الا ان تقديم هذه الخدمات تحتاج إلى موارد، فالدولة لا تستطيع تمويلها من خلال عجز في الموازنة هذا الأمر يستدعي استخدام زيادة في الإيرادات عبر ضرائب الدخل التصاعدية والضرائب الاستثنائية وضرائب الرساميل لكن على المدى الطويل هذا الأمر لا يكفي فالاجور بحاجة إلى الارتفاع أيضا فمع انهيار النموذج الريعي ومعه مستوى الأجور المضخمة من الطبيعي أن يمر مسار إعادة رفع مستوى الأجور الحقيقية من خلال نمو الاقتصاد، هذا الأمر يحتاج إلى خلق نموذج منتج للقيمة بالإضافة إلى ذلك فإن النمو الاقتصادي يخلق فرص عمل اي ان الطلب على العمل يزداد وبالتالي هذا الأمر يعني ارتفاع قيمة العمل السوقية اي رفع الأجور إلى قيمتها الطبيعية لذا لا يمكن التفكير في تصحيح الأجور الحقيقية في المجتمع من دون نسيان النموذج الاقتصادي الذي انهار وضرورة بناء اقتصاد قائم على الإنتاج الفعلي.
………………………………..
الخرطوم9اغسطس2022

مواضيع ذات صلة

يا مافي السجن مظاليم بقلم: عميد شرطة فتح الرحمن محمد التوم- الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة

عزة برس

كلام سياسة.. الصافي سالم أحمد يكتب: وزير الخارجية : ملفات في الانتظار

عزة برس

أجراس فجاج الأرض.. عاصم البلال الطيب يكتب: يا نجوى كلنا فى الحكمة شرق

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: إعدام وزير ..!!

عزة برس

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: من يستحى لهولاء من؟

عزة برس

هناك فرق – منى أبو زيد تكتب: من يجرؤ على الكلام..!

عزة برس

اترك تعليق