المقالات

الزعيم إسماعيل الأزهري بقلم : د. على ابراهيم

فى الساعة الرابعة من عصر الثلاثاء السادس والعشرين من أغسطس عام 1969 أسلمت روح الزعيم الخالد إسماعيل الأزهري و رحلت إلى بارئها راضية مرضية و ندعو الله أن يدخلها فى جنته.
فارق هذه الفانية عبدآ فقيرآ إلى ربه، غنيآ بحب شعبه الذى أفنى جل حياته من أجل تحريره و رفاهيته و بحب كل الشعوب الناشدة للحرية والعدالة والديمقراطية.
ومضى شهيدآ كما يريد الله أن يأخذ الأبطال و المناضلين وقوفآ، مرفوعى الرأس و الضمير و الهمة و يجعل جلا و علا الخزى و العار و سبة التاريخ لجلادييهم. هكذا يسير أصحاب الرسالات و القيم النبيلة و تظل سيرتهم نبراسآ و هدى و هداية.
يصبح مآل الجبابرة عظة و وعبرة تاريخية تلاحق ذكراهم النتنة.
مضى على الرحيل المؤلم نصف قرن من الزمان.
و فى هذه الحالات تقام في كل بلاد العالم الحر المهرجانات و الفعاليات السياسية، تمجيدآ و تقييمآ لصاحب الذكرى، لكنها مرت مرور الكرام في بلد خارج من ثورة عارمة ضد حكم غاشم، ظالم و مستبد و هو يتلمس خطاه المتعثرة من أجل الديمقراطية و التى لطالما نادى بها الراحل العظيم و ضحى من أجلها حتى آخر لحظة من حياته العامرة بجلائل الأعمال، فماذا دهى شعب السودان حتى يصل إلى درجة فقدان الإحساس و لا أقول النكران، فالتاريخ لا ينسى و لا يتنكر لمثل هؤلاء العظام.

هو إسماعيل بن سيد أحمد بن أحمد الأزهري بن إسماعيل الولى المدفون في الأبيض حاضرة كردفان.
تعود أصوله إلى دبة الفقراء في محلية الدبة و التى تضم مجموعة من القرى إضافة إلى جزيرة تنقسى. و من هذه القرى هاجر الكثير من الأسر فى القرن قبل الماضي إلى كردفان و سكنوا و عمروا كثيرآ من المدن مثل الأبيض و بارا و أم روابة وغيرها.
و هذه المنطقة الواقعة عند منحنى النيل الشمالى هى موطن و منارة للعلم والمعرفة و الثقافة و قدمت الكثير من العلماء والدعاة و الأدباء فى الأدب الشعبى المحلي و العربي.
تعود أصول كثيرآ من الأسر الكردفانية إليها، كآل شداد و آل قريش و آل يسن و آل سوار الذهب و آل دوليب و غيرهم.

ولد الزعيم فى بيت علم و دين فى مطلع القرن الماضي و نشأ و ترعرع فى ذلك الجو المشبع بروح المعرفة و التطلع الإيجابي في التحصيل العلمي و الثقافي.
تلقى تعليمه الأولى و الأوسط فى أم درمان و مدنى.
و منذ البداية أظهر ذكاءآ خارقآ و تفوقآ بينآ و جرأة في الإقدام و التصدى. كتب الأستاذ حسن نجيلة : إن فى إحدى تلك السنوات حدثت ظاهرة حيرت الجميع تتمثل في وفاة كل من ينزل إلى داخل بئر معينة و كانت ظاهرة لم يستطع أحد فك طلاسمها و أزدهرت خيالات الشعوذة في التفسير الممزوجة بأمور غيبية. و بينما الناس في حيرتهم هذه، أرسل التلميذ إسماعيل الأزهري رسالة لإحدى الصحف فسر فيها بطريقة علمية سليمة الأسباب التي تؤدي إلى الوفاة داخل البئر. و كان ذلك أول ظهور عام للتلميذ النابغة و الذى شكل ميلاد رجل متفرد في كل صفاته و أفعاله.

فى تلك السن المبكرة أتيحت له فرصة زيارة وفد الأعيان و السياسيون إلى بريطانيا مرافقة لجده قاضي القضاة كمترجم له، أن يتعرف و يتحسس دروب السياسية و قناعتي الشخصية أن تلك الزيارة كان لها الأثر الكبير في تخلق وعيه السياسي و فى رسم خريطة مستقبله العلمى و السياسى. و عززت إيمانه الراسخ بالديمقراطية.

عمل مدرسآ في عطبرة و أم درمان.
بعث مع إثنين من أقارنه إلى الجامعة الأمريكية في بيروت و تخرج منها في عام 1930 . و فى جلسة مع هؤلاء الأقران تسألوا بينهم ماذا يريد كل منهم أن يفعل مستقبﻵ فقال لهم الزعيم بأنه يريد ان يطرد الإنجليز من السودان! ! ! ! !
و بذلك تنبأ بمستقبله من حيث لا يدرى.
لقد تحقق له ما أراد.

بعد ضرب و إجهاض ثورة 1924، بدأ نوع جديد من المقاومة ضد الإستعمار البريطاني تمثل فى قيام الجمعيات الأدبية و التى ضمت معظم المثقفين والمبدعين و كانت تملك رؤى فكرية وسياسية تحركها في الخفاء بعيدا عن أعين المستعمر و كان لهذه الجمعيات أذرعها في المدارس و المصالح الحكومية. و كان الزعيم من خلال عمله كمعلم، ناشط و بفعالية ظاهرة، جعلته عرضة للملاحقة و الإستجواب و العقاب.
عندما ضاق بحمل رسالة المعلم الأكاديمي و التى أصبحت عائقا أمام رسالته الكبرى، أختار حمل رسالة المعلم السياسي و أستقال و تفرغ بالكامل للعمل السياسي و قاد مع رفاقه نضالا سياسيآ سلميا ذكيا و كانت لتجربة المهاتما غاندي دورآ كبيرآ في تشكيل تلك الرؤى والرسائل النضالية.
تبلورت تلك الحركة الشعبية فى أنشطة متعددة قادت إلى تكوين نادى الخريجين و الذى كان الزعيم رئيسآ له عام 1943. و إنبثقت فيما بعد الأحزاب السياسية.
و فى نفس ذلك العام شكل مع عدد من المفكرين و المناضلين حزب الأشقاء. و أستطاع فى فترة وجيزة أن يجعل كل مدن وقرى السودان الكبيرة في شبكة تنظيمية مترابطة. و زار كل أصقاع السودان المترامية الأطراف و كانت له مقدرة فائقة على معرفة كل الأسر فى تلك الأصقاع و كان يسأل عنهم فردآ فردآ و هى مقدرة إلاهية لا تتوفر إلى أصحاب الحظوة. و لهذا كان إلتفاف الشعب حول شخصه و زعامته له أسبابه مبرراته.

قاوم كل محاولات الإستعمار البريطاني في فرض واقع جديد يخالف تطلعات الشعب نحو الإستقلال، كالمجلس الإستشاري لحكومة السودان و الجمعية التشريعية و التى قال عنها : نرفضها وإن جاءت مبرئة من كل عيب.

و فى مرحلة التطور الطبيعي للنضال الشرس و المقاوم للإستعمار، قاد الزعيم وفد الأحزاب السودانية لمفاوضات مصر و السودان عام 1946 في القاهرة ثم إتفاقية تقرير المصير في عام 1953.
في عام 1953 أصبح رئيسآ للحزب الوطني الاتحادي و فى ذلك العام أجريت إنتخابات برلمانية و فاز فيها الحزب بالأغلبية المطلقة و ترأس حكومة السودنة و أنجزها في أقل من المدة المحددة وظل رئيسآ للوزراء حتى عام 1956.
و فى 19 ديسمبر عام 1955 أعلن إستقلال السودان من داخل البرلمان فى خطوة كانت مفاجأة للجميع. و أنا على يقين و قناعة بأن هذا هو التاريخ الحقيقي لإستقلال السودان و ليس الأول من يناير.
فى 1 يناير أنزل علمي بريطانيا و مصر و رفع علم السودان ذو الألوان الأزرق و الأصفر و الأخضر – و الذي سيعود إلى ساريته اذا طال الزمان أو قصر – لأنه إرث وطني و تاريخي لكل السودانيين، و الأمة لا تلغي ذاكرتها أو ترمي بها في سلة المهملات.
فى عام 1955 قاد وفد السودان إلى مؤتمر باندونق بإندونيسيا و بذلك كان السودان من الدول القليلة التى أسست لمعسكر دول عدم الإنحياز.
فى عام 1956 سقطت حكومته الوطنية بتحالف السيدين على الميرغني و عبد الرحمن المهدي.
فى عام 1958 سلم رئيس الوزراء عبد الله خليل السلطة لعبود منعآ لوصول الحزب الوطني الاتحادي للسلطة كما تشير توقعات و إرهاصات الانتخابات المتوقع إجرائها في ذلك الوقت.
قاوم الزعيم و كما كان متوقعآ الإنقلاب العسكري و فى مرحلة زج به في السجن و رحل مع بعض المناضلين إلى جنوب السودان.
بعد ثورة أكتوبر عام 1964 أصبح رئيسآ لمجلس السيادة من 1965 حتى عام 1969.
و حين سطا العسكر على السلطة بقيادة الطاغية جعفر نميرى فى مايو 1969، أعتقل الزعيم و زج به في السجن الى ان لقى ربه شهيدآ.
هذه قطرة من فيض حياة الزعيم الشهيد الحى. و ستظل سيرته و مسيرته و مواقفه نبراسآ يضئ الطريق للجيل الحاضر و للأجيال القادمة.

له الرحمة والمغفرة، جعله الله من أصحاب اليمين و أن تكون له جنة الفردوس نزلآ.

مواضيع ذات صلة

شيء للوطن.. م. صلاح غريبة – مصر السودان، حربٌ على النسيج الاجتماعي أم حربٌ على الشائعات؟

عزة برس

يا مافي السجن مظاليم بقلم: عميد شرطة فتح الرحمن محمد التوم- الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة

عزة برس

كلام سياسة.. الصافي سالم أحمد يكتب: وزير الخارجية : ملفات في الانتظار

عزة برس

أجراس فجاج الأرض.. عاصم البلال الطيب يكتب: يا نجوى كلنا فى الحكمة شرق

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: إعدام وزير ..!!

عزة برس

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: من يستحى لهولاء من؟

عزة برس

اترك تعليق