المقالات

ليتنى ما سألتها.. بقلم: عميد د. الطاهر أبوهاجة

تفرقنا فى دروب الزمن الأغبر بعد جوار دام سنين عددا . يجمعنا ذلك الحي المسكون بالحيوية والتعاون والوئام والمودة ، وكأنما الجيران أسرةً واحدةً يصل بينها ود معافى من عذابات المحبين الجدد .. أواصر لحمتها وسداها إيثار لا تداخله ضروب المصالح الزائلة ، ولا المجاملات المظهرية الزائفة التي تماثل ( البندورة) إذ يسرف راعيها في سمادها فتتضخم زيفاً كما بالونةٍ حمراء كبيرة تنتفخ حد الفرقعة .. ضخمةٌ ومتوهجة الإحمرار لكنها بلا نكهةٍ ولا مذاق …
عند الباب وبعد قرعه قبيل دقائق من موعدى المضروب معه ذات صباح خريفى .. هرولت آية الصغيرة مسرعة وفتحت الباب . طفلة لم تتجاوز التسعة أعوام خرجت الى الدنيا تتوسط أخوتها في الترتيب روحها براءة ، وحركتها دؤوبة وذكاؤها يشع من عينيها كأنها فراشة تحلق فوق أزهار جزيرة جدي نواوي ..
إنفتح الباب وأشرقت آية وعلى الوجه الصبوح سُوَرٌ من طفولةٍ تسائل الزمان في دعةٍ إلى أين يحملها في غده وتظل إجابة السؤال عالقةً في ابتسامةٍ صبغت الوجهه الطفل بالأمل والتفاؤل … باغتتني مباشرة بسؤال مفاجئ : (حلا) وين ؟
وهي تشير لنظيرتها أبنتى الصغيرة ومن أترابها اللائى كن كحبات العقد لا يتكامل أزلا إلا بهن .. ممراحٌ مزاجه ألعابهن وصخبٌ جميلٌ ما يزال يتردد في زوايا المكان .. جيئة وذهاباً وركضاً ما بين دكان موسى وصحن حوش عبدالرحمن الواسع الذي تترامى مساحته مد البصر وكأنه ملعب كرة قدم …
حملتني حملاً لذلك الزمان يا رعاه الله .
– حلا موجودة لكنها مشغولة بالامتحانات ، بعد تخلص سنزوكم بإذن الله .. أجبتها في غضون عودةٍ لزمان ( جاده الغيث إذا الغيث همى ) ..
في الطريق نحو الديوان تقع عيناى على حوائط الجالوص المتآكلة من ضربات أمطار الخريف عبر السنين لكنها ظلت صامدةً تقاوم هى الأخرى بظهرٍ مكشوفٍ وقد حرمته الفاقة غطاء التبن (الكركـ) ، ولولا صوت البشر لقلت أن المنزل بقايا أطلالٍ سبقني إليها فتى كندة ، أو أنها دارٌ ( مسكونةٌ ) اعتزلها البشر ..
فى الجانب الأيسر سدرةٌ تبدو شاحبة بائسة رغم رذاذ الخريف ، فيما شهرت أشواكاً شديدة البياض وكأنها أنياب مفترس ، وفى الجانب الأيمن تنام عربة ( كارو ) بالية وقد أحالت إطاريها مزقاً هجائر الشمس المتتالية وما غدا منها سوى تلك المِزق ، وكأنها تصبو لقطرات الخريف علها تعيد الأيام الخوالي بعد ظمأً وضيق .
عصام العصامى عاجلني رافعاً عقيرته كالعهد به ؛
… أتفضل يا جنابو أتفضل الصالون فاتح ..
أخذت مجلسي وآية تلقي السؤال تلو السؤال وهي تتلقى ردودي في فرحٍ طفولي غامر . وتارةً تتأمل في ردي ، وأخرى ترد بقوة ملاحظة بها من الدقة والتركيز ما يتجاوز عمرها بسنوات.. حركتها وسكونها تنبئ عن ذكاء حاد مبلغ أن تدرك من الوهلة الاولى أن ثمة مستقبل زاهر ينتظر هذا التوقد الفطري ، وتظل بين كل حركة وأخرى تنظر لبزتى العسكرية وقد تاخذ ( البورى ) ثم تضعه على رأسها .
– إنت شرطي ؟
ولقد لاحظت أن غالب أطفالنا يربطون الكاكى بالشرطة ، وربما لارتباط الشرطة بالعامة .. ولقد كنا حتى وقت قريب نسمى الشرطة ( الحكومة ) وهى عادةً محل إحترام يظل الحفاظ عليه قيمةٌ مقدسة … فجأة انتبهت لوجودها فى المنزل رغم أن اليوم يوم دراسى وليس ثمة مانع واضح يمنعها من التواجد بالمدرسة ، مما دفعني للتساؤل ؛
– يا آية أنت ما عندك مدرسة اليوم – أنا ما مشيت للمدرسة لأن أبوى ما قدر يدفع لينا كلنا رسوم الدراسة .. دفع لمحمد وعمر وآمنة والباقر وقال أنا وماجد السنة الجاية يعنى السنة دي مافى مدرسـة .
هكذا أجابت بتلقائيةٍ وكأنما هو سؤال عادي عابر .. وكأنها لا تدرك حجم الضرر من خصم عام كامل من عمرها الدراسي بسبب الرسوم .. ولربما أنها لا تدرك فعلياً حجم المأساة …
ترى ماهو إحساس المرارة فى قلب والدها بل فى قلبها البرئ الصغير عندما ترى أترابها يخرجن صباحاً الى المدرسة ؟ .. شطرتني إجابتها لنصفين ، ليتنى ما سألتها .. ما الذي جرنى نحو تخوم فجيعةٍ تروي فصول هذه الدراما السوداء !.. أى ذنب جنت هذه الفراشة حتى يضيع مستقبلها بمتاريس الفقر اللئيم والفاقة الكالحة ويكبت براعم الطموح وطلع الغد المنشود !! .. وأي ذنب جنته آية ليذوي الأمل فى قلبها وعينيها المتقدتين ذكاءً وألقاً وفطرة سليمة ! … أى حظ وأى قدر ينتظر أطفالنا البؤساء؟ .. لماذا ترتهن أحلامُهم لسياسات الجشع والجور والقبور : كان المذياع حينها يحدث عن خطابٍ يتوعد الفقر مردداً ( سنجتثه من جذوره ) .. يا ترى متى تقوى عزائمنا لنقاتله معاً قتالاً شرساً ضارياً يزيحه من حياتنا الى الأبد ليت ضواً يلوح … فى آخر النفق … ضوءٌ يعيد آية الى مدرستها ، ويستبعد المال كعائقٍ في طريق التعليم الى الابد ..
ضوءٌ نؤكد عبره حقيقة أن الإنسان هو الأغلى من كل ما عداه ..
ضوءٌ يقضي على شراهة استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ويبعد وإلى الأبد السطوة الطفيلية التى تقذف بمصائرنا وفلذات أكبادنا فى غياهب المجهول وتئد عبقرياتنا البريئة فى مهدها ، وتفسح المجال واسعاً لظلامٍ دامسٍ يغطى كل سماوات الوطن الجريح ..
ليتنى لم أسأل آية … ففى قصتها آيةٌ وعِبرةٌ وعَبرة .

مواضيع ذات صلة

بينما يمضي الوقت.. عام على حرب السودان.. فزلكة.. أمل أبوالقاسم

عزة برس

فريال الطيب تكتب : معركة الحق ستنتصر

عزة برس

بالواضح.. فتح الرحمن النحاس يكتب: نعم يابرهان..القول ماقلت.. ميلاد مختلف للوطن الكبير..!!

عزة برس

دكتورة ميادة سوار الذهب تكتب: لاءات البرهان.. تأسيس أم تكريس ؟

عزة برس

همس الحروف.. سحابة حزن سوداء ظللت سماء دنقلا لغرق الأخوين أواب و خالد في أول أيام العيد.. الباقر عبد القيوم علي

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: البرهان في ولاية الخرطوم: (دلالات التوقيت) …!!

عزة برس

1 تعليق

السر علي سعد 2021-06-18 at 3:07 ص

أبدع دكتور أبو هاجة في تشخيص الداء بمبضع الأديب الرهيف ووصف الدواء وأوجز في براعة الحكيم..

رد

اترك تعليق