المقالات

إبراهيم محمد الحسن يكتب: إيثار بت خالد ود سند

” في لحظاتها الأخيرة عندما كان الممرض يبحث عن وريد في يد الصغيرة إيثار ويؤدي عمله بوجل ومسؤولية ويحاول طعن الإبرة، كانت الصغيرة تتلوى ألما، فمددت له يدي المعروقة وقلت له كل هذه الأوردة والشرايين لك خذ من حيث شئت دما.. فاندهش الممرض وظن بي لوثة، ولا ألومه على ذلك فهو ليس والدها، ولكنه بالتأكيد قد وصله إحساسي عبر ذلك الحبل السري، وعبر الإنسانية أيضا ” هكذا كتب خالد و هو ينعى صغيرته التي رحلت .
كان يحمل ريشته و يرسم و يصور و ينحت .. يبتعد خطوة الي الوراء ليرى كيف استطاع اللون ان يشع مخترقاً بياض اللوحة بلمسة فنان كان يمكث طويلاً امام خط رفيع للريشة ثم يكسر علياء تبتله عند لوحة ما اكتملت مذ ايام الدرس ليسرع الي مفاتيح لوحة الحاسوب لاحقا بالمطبعة .. و لم يكد يكمل تصاميم الصحيفة كلها ثم يطلق تنهيدة تصعد من دواخله الجميلة و ترتقي الي اعلى مصاف روحه الشفيفة وقبل ان تبدأ هبوط الراحة يدلف رئيس التحرير بفكرة مجنونة او خبر سبق .. يعيد خالد تنهيدة الارتياح من عليائها في سماء روحه الشفيفة الي دوحة من ابتسام الصبر الجميل و يبدأ من الصفر ..
يبعثر خالد التصاميم الجميلة كرة اخرى و يعيدها الي ضبط المصنع و ابتسامة جميلة ترتسم على محياه الوضئ و يبدأ من الصفر .. يمسك الريشة و يضغط ازرار الكي بورد و تبدأ الانامل و الازرار تعمل في تناغم و اتساق .. تبدأ من جديد و عند اللمسة الاخيرة و قبل انطلاق تنهيدة الارتياح يأتي الخبر السبق يطيح بكل جمال التصميم تعمل الازرار و الانامل لتعيد لوحة الجريدة الي ضبط المصنع .. تصعد ذات الابتسامة الي المحيا الوضئ .. تمتد يده الي كوب القهوة يرتشف منه رشفة ممتدة بصوت الكيف قبل ان تعود الازرار و الانامل تعمل في اللوحة من جديد.
لا ضجر و لا غضب و لا احتجاج بل صبر جميل ..ممتد في براح روحه السمحة … كنت دائما اسمع ان الصبر جميل و لكنني ازعم انني رأيته جميلاً و مبهراً و طاغ عند خالد . كنت لا امل الجلوس اليه لاتعلم فضائل كثر اقلاها ذياك الصبر الجميل . كنت انتظر في كل مرة لحظة انفضاض سامر الصبر عنه لأرى كيف تكون عنده لحظات انقضاء وطر التحمل و بداية نفاذ الصبر ..لم ينفذ صبر خالد و طال انتظاري .
الاف العزاءات حضرنا مراسمها .. القاسم المشترك الاعظم حزن طاغ يجلل شخص ما و تجعله متأرجحاً بين دلق حزنه جدول ينساب مشاعر و بين حرصه علي القيام بواجب ضيافة معزيه عند حافة قبر من رحل او عند سرادق العزاء المنصوب في باحة الحي .. نشيح بوجوهنا بعيداً لان لغة العيون هي الحد الفاصل بين حبل الصبر و انبهال الحزن و لكن عند خالد كان الوضع لا .. كان الموقف غير .. سلمنا عليه و طفقنا نتلو عليه عبارات الصبر و المواساة و ( عبنا في عينو ) و هو شامخ فوق جبال حزنه كالطود ..كان يحكي ثم يحكي و يحكي و نحن ( نتزمل بحبال صبراً فقدنا زماااان ) .. قلنا له انها قد سبقته الي الجنة و طلبنا اليه ان ينقل تعازينا لوالدتها و لافراد الاسرة .. خالد هو خالد نفس الروح الشفيفة التي تنفذ عبر الاحداث و النوازل لترى الامر من زاوية شوف مختلف … لم يكن خالد فيلسوفاً و هو يسوقنا عبر حنايا حزنه ( زنقة … زنقة .. ) يضئ الزوايا و يشرح و عندما غلبنا التجوال معه في هذه الدروب وصلنا اللحظة التي ما كنت اريدها نكست نظري و …ودعناه .
خالد الدنيا مشوار قصير مهما طال المكوث فيه نهايته محتومة و الحياة فيها الي زوال .. لك و لامها و لاخوتها الصبر الجميل ..اصبر ياااا خالد فقد سبقتك الي الجنة شافعة لك من وغث الحياة و كآبة دنيا عابرة الي زوال …و انزل … انزل يا خالد من جبل الحزن هذا و ارسم وردة بريشة الفنان فيك و اهديها لامهات كل الاطفال الذين رحلوا في زياااك اليوم يرون فيها من رحلوا بزاوية شوف .. خالدي تسري عنهم و تصبرهم .
هكذا كتبت له عبر الوسائط و لكن و ما لا تستطيع ان تنقله الوسائط ابتسامة خالد الحزينة و هو يحكي :عندما حملت جثمان الصغيرة بين يدي ، فجأة طلبت من مرافقي ان يحول الجثمان للجهة الاخرى ،، و مع دهشته قام بتحويل الجثمان .. الان اصبح قلبي قصاد قلبها الذي بدأ ينبض .. يقول خالد ضممتها اليه بحنان باذخ جعلت قلبي يدق بشدة .. تعالت ضربات قلبي كنت اريدها من القوة حتى تنقل عدوى النبض الي القلب الصغير الذي قال الاطباء انه توقف ، كان يساورني احساس جامح ان هذا القلب ما توقف كان يحتاج الي نبضات اقوى يحتاج الي صدمات كهرونبضية من قلبي المفعم بحبها ايثار .. كنت شهوداً علي رحلتها في المشفى كان بصرى يتنقل بين نبض قلبها بي حنايا الاجهزة و لمسات الطبيب الحانية علوا و هبوطاً في مهنية و احترافية ، كانت حساسات روحي تستبق الاجهزة في قراءة النبض ، كنت أرى القلب نبضاته تضعف .. و تضعف ، ثم تتلاشي فتصمت ..يرفع الطبيب المعالج بصره الي لتنطق لغة العيون بأن ايثار ماتت ..أتم الطبيب واجبه علي اكمل وجه ممتتبعاً بروتوكولات تأكيد حالة الموت قبل ان يثبت الحالة علي الورق عنده و علي الشهادة ،،، اكملنا مراسم الخروج من المشفى سريعاً .. حملتها مهرولاً نحو السيارة و في منتصف الطريق طلبت من مرافقي ان يحول الصغيرة الي الجهة الاخري الي ( الجنبة الشمال ) ..
انطلقت العربة في شوارع مدينة بحري في واحدة من عصاريها الضاجة بالحياة – يقول خالد – ، تتعالي صيحات الصبية في الميادين و الملاعب ،، تعلو الاغاني و ترتفع ابواق السيارات غضباً او حبوراً وهي تمر بجوارنا ،، يتبادل الناس التحايا في صخب ، بل و يرفع احدهم يده بالسلام علي … اوو استاذ .. تمضى الحياة بلا توقف احدث نفسي في غضب و جثمان الصغيرة جاثياً يرقد في حجري اضمه على صدري .. اناجيها عبر النبض المتصل و .. و أصيح في قرارة نفسي في وجه الحياة الضاجة في الشوارع .. ما بال هؤلاء الناس يعيشون كل هذا الصخب و يحتفلون بالحياة حد الشجار ، يغنون و يمرحون و يلعبون الكرة ما بال هذه الاصوات لا تنكس من علوها .. ثم انهم اتساءل ؟ الا يعلمون ان صغيرتي قد ماتت .. لماذا كل هذه الامبالاة ؟ اين جلال الموت و هيبة الحياة التي توقفت ؟ كدت ان اطلب من يقود السيارة ان توقف ..اريد ان ازجر هؤلاء .. اريد ان اصيح بهم ان كفوا عن هذا العبث ..اريد ان اقول لهم توقفوا …مطلوب فقط دقيقة صمت و حداد علي الصغيرة التي رحلت “.
نقف جوار هيكل قديم لعمارة لم تكتمل و خالد يحكي ،، في هذه المواقف لا يجدي ان تشيح ببصرك بعيداً .. لن يفيد الهروب بالانصراف الي العبث بشئ في يدك و لن يفيد ترديد العبارات المحفوظة امام جبل الحزن الذي يحكي و ينطق . ما كان امامى الا ان اجعل بصرى يمتد داخل بؤبؤ عينه نافذا عبر القرنية و القزحية الي عدسة العين .. لينكسر بعد الشبكية الي اعماق قلبه الذي اراد ان يمنح الحياة للصغيرة و ما استطاع ..و لكن وصل حزني متنهاه و لم اصمد … نكست بصرى مطأطئاً اجفان اثقلتها دمعة تسللت من يقين المداراة ، ودعت خالد و هربت الي السيارة .

مواضيع ذات صلة

تقرير: 1140 حالة اختفاء قسري خلال عام من الحرب في السودان

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: دعوها فانها مأمورة ..!!

عزة برس

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: استفهامات بريئة جدا ؟!

عزة برس

على كل.. محمد عبدالقادر يكتب: دموع مريم… وهروب حمدوك

عزة برس

تمبور السودان عصي على التركيع وصامد امام اعتى العواصف

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: تفسير مفهوم مصطلح (تكنوقراط) انجب مولود مشوه ..!!

عزة برس