المقالات

أبا وود نوباوي جرح لا يندمل إلا بعدالة انتقالية حقيقية .. د. الصادق الإمام الهادي المهدي

في مثل هذا اليوم من شهر مارس عام 1970 م، وتحديدا بعد أن أم الإمام الهادي صلاة الجمعة بمسجد الكون ، وقتها كان تحالف القوميين والشيوعيين يسارع الخطى في تدبير مؤامرة قصف الجزيرة أبا بالمجنزرات والدبابات وحاملات الجنود ثم بالطيران الأجنبي. لم يكن ثمة مبرر لحشد هذه الآليات ضد معارضة مدنية كانت تضم أحزابًا سياسية تنضوي تحت تحالف الجبهة الوطنية. بل ان مطالب المعارضة كانت غاية في السلمية ، كما قدمها الإمام الهادي في المذكرة المعروفة التي سلمت لوفد الانقلابيين وملخصها:
1- ابعاد الواجهة الشيوعية الحزبية
2- إلغاء ميثاق طرابلس منعاً للتدخل الأجنبي في القرار الوطني
3- إطلاق سراح المعتقلين السياسين
4- ترتيب استفتاء على الدستور المقترح لعام 1968م
5- عودة الجيش للثكنات
هذه المطالب السلمية حملت لمندوب النميري أحمد أبو الدهب الذي أقسم على المصحف الشريف بأن يسلمها للسفاح كما هي. الالتزام ابو الدهب جعل خطبة الجمعة 27 مارس هادئة النبرة مستبشرة بحل سلمي. وأكدت الخطبة ان المعارضة حريصة على الحل السلمي مثلما أكدت على الديمقراطية. ولكن النية السيئة كانت مبيتة من تحالف الشيوعى والقومنجية. إذ كان النظام الإنقلابي الذي يأتمر بالخارج ويجسد التدبير الأجنبي ينفذ اجندة من اتوا به. ولأن الأجنبي يعلم أن الجزيرة أبا والأنصار كانوا ولا يزالون أكبر حجر عثرة أمام التدخل الخبيث وأمام مشاريع الاستلاب الثقافي والفكري، لذلك مع طلوع شمس يوم 28 مارس 1970م، لم يكتفوا بقصف ابا بل نظم جناح من الحزب الشيوعي مظاهرات مصطنعه ، طالبت فيما طالبت بقطع رؤس قادة الاحزاب السياسية فضلًا عن إبادة الجزيرة أبا وحدد المتظاهرون اهدافهم في قتل الإمام الهادي والشريف حسين الهندي وكل الشرفاء الوطنيين الذين اسعتصموا في أبا. فهذه (مطلب شعبي). لاشك ان هذه المظاهرات شجعت السفاح نميري على تكثيف القصف الجوي والبري مع إحكام الحصار الشامل على مداخل الجزيرة أبا. ولهذا منعت كثافة النيران السكان دفن ضحاياهم أو إسعاف الجرحي. ففي اليوم الأول لوحده حصد القصف أكثر من ألف مواطن في الجزيرة أبا. ونذكر أهوال تلك الأيام وقد كنا اطفالا حين أسقطت الطائرات القنابل على منزلنا ويلوح مشهد الحبيبة الشهيدة ثريا بت الزاكي التي ارتفعت الى بارئها أمام ناظرينا وكانت الطائرات لحظتها تستهدف مكان إقامة الإمام الشهيد الهادي المهدي لاغتياله. بعد الحبيبة ثريا رحمها الله أخذنا ليلا إلى المقابر ضمن اطفال الجزيرة أبا عسى ولعل ننجو من المذابح. وفي اليوم الثالث للمجازر تابعنا انخراط طيران أجنبي آخر مساندًا لتحقيق (هدف ) مسح (الرجعية) بالجزيرة أبا وإقتلاع الفكره الأنصارية من الجزور.
ويبدو أن الطيران الأجنبي الإضافي الذي اختلفت الروايات حول هويته، بعد إلقائه عددًا من القنابل وأكثرها لم ينفجر بفضل الله ، قرر أن لا يعاود لانه لا هدف يمكن قصفه. هكذا عرفنا لاحقًا انه يرابط في وادي سيدنا.
أحدثت المجازر صدى واسعا في أركان الدنيا الأربعة ، ومع ذلك في فجر يوم 29 مارس 1970 حدثت مجزرة أخرى. إذ ولد حجم الدماء والمذابح غضبًا لدى المصلين في مسجد الهجرة بحي ودنوباوي فقرروا الخروج في مظاهرة سلميه تندد بقصف أبا وبالمجازر التي حدثت للمدنيين.
تم التصدي للمظاهرة بعنف دموي وبعربات مدرعة، تم تفريقها دون أن تبلغ كبري النيل الأبيض. فعاد المتظاهرون أدراجهم وقفل طلاب الخلوة لكتابة ألواحهم ودخل بعض المشاركين من حي ود نوباوي إلى المسجد لقراءة وردهم اليومي. ولكن قادة الحزب الشيوعي والقوميين العرب كان لهم تدبير آخر ، وحانت فرصتهم. فقرروا المناداة بالمايكرفونات بأن هناك خطر وعلى السلطة تدمير مسجد الإمام عبدالرحمن بمن فيه بحجة ان بداخله مسلحين. وهكذا تحركت دبابات من السلاح الطبي وبدأت تدك في المسجد وتهدم في المأذنة. وظهرت كوادر الحزب الشيوعي السوداني كحزب حاكم وهم يقودون المعركة وينادون بإبادة أي أنصاري. ثم شاركت نساء شيوعيات ويساريات وزوجات قادة من الحزب الشيوعي وهن يهتفن بعبارات (عنصرية). والناس في ام درمان تعرف سائق عربة شركة البيبسي الذي شارك في ذبح طفل كان يحمل لوحًا مشرفًا بآيات قرآنيه قد فر من قصف خلوة المسجد. ولذلك باستثناء النازية لم تعرف بلادًا في تاريخها عهداً مظلما استبيحت فيه الدماء كما عرفته بلادنا في أيام حكم السفاح نميري وحلفاءه الشيوعيين والقومنجية. لكن الله يمهل ولا يهمل، لم يمضي الكثير من الوقت حتى جعل الله تدبير هذه الفئة تدميرًا لها. اذ بعد عزل السفّاح نميري لثلاثة من زملائه الشيوعيين، قام هاشم العطا والجناح العسكري بإنقلاب مضاد في نهار 19 يوليو 1971م. ولأن الله قدر عليهم ذلك، أتى قائد الانقلاب بأمين عام الحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب وأدخله إلى القصر الجمهوري. هل بهدف التخطيط للمرحلة التاليه ام لتأمين أمين عام الحزب لا أحد يستطيع الحزم ولكن الإنقلابيون الجدد تمكنوا من اعتقال السفاح نميري وثلة من الجزارين الذين شاركوا في مذابح أبا وودنوباوي. تحركت العواصم التي أتت بالانقلاب وحركت تدخلًا ليبيًا فأرسل القذافي رحمه الله طائرتين مقاتلتين إعترضتا رحلة الخطوط البريطانية المتجهة إلى الخرطوم فتم اعتقال المقدم بابكر النور قائد الإنقلاب، والرائد فاروق عثمان حمد الله. وبعد مغادرة الطائرة البريطانية، أرسل القذافي في يوم 22 يوليو 1971م، دعمًا عسكريًا إضافيًا للسفاح. فأعيد نميري للحكم. وفور عودته، شرع في نصب المشانق وحز رقاب العصبة فاقام محكمة صورية في شجرة (ماحو بيك) اجهز فيها على شركائه دون رأفة ولم يرف للنميري جفن. وهكذا تخلص النميرى من قادة الحزب واخضع الباقين لحكمه. وهكذا خيمت المأساة على حياة وأسر وأفراد الحزب الشيوعي وأذاقهم الله ما أذاقوا ابرياء وعزل في ابا وودنوباوي.
واليوم عندما نستعيد عن هذه الذكرى الاليمة فإن الإنتقام ليس هو الهدف ولكن للعبرة والاتعاظ وأيضًا طالما هناك حديث عن العدالة الإنتقاليه فإن المفهوم يجب أن يتسع ليشمل بحث هذه الجرائم التي تطارد مرتكبيها. فلابد من المساءلة والمحاسبة وخاصة مساءلة بعض الأحزاب التي تدعي زورا وبهتانًا أنها حريصة على حقوق الإنسان بينما هي بفعلها في أبا وودنوباوي والكرمك كانت أقرب لعصابات منظمة منها لتشكيلات مدنية وسياسية. إن ارتكاب السفاح نميري للمجازر في أبا وودنوباوي بقدرما تستدعي تطبيق العدالة الإنتقالية بحق حكوماته فإنها تستلزم إنصافًا للضحايا وهم ضحايا أحزاب (مدنية) كانت تشارك النميرى المجازر والانقلابات وتحرض عليها.
فإذا أريد لبلادنا معالجة جراحها فلابد من الإنصاف. ولا يمكن توقع الصمت من الضحايا ولن تعالج هذه المآسي بالفرار أماماً من الجرائم، أو إنكار القتل جهرة أو غيلة. كما أن محاولات البعض دفن الحقائق وإهالة التراب على مذابح الشيوخ والنساء والأطفال والرجال بكتابات مخاتلة وكاذبة لن يجدي نفعًا ولن يسعفهم.
إن مجازر أبا وودنوباوي جرائم حرب تستلزم من الدولة السودانية نفسها تكوين لجان للحقيقة وللإنصاف فالجرائم لا تسقط بالتقادم وعنف الدولة ضد مواطنيها يعتبر جريمة قد تقود لمحاكم الجزاء الدولي خاصة ان ثبت ان ليس ثمة مبرر لإزهاق تلك الأرواح وخاصة ليس من مبرر لقتل مواطنين سودانيين شرفاء لم يفعلوا شيئا سوى رفضهم لإنقلاب دموي وحزبي. وعهدنا للشهداء أن نظل في دربهم وفي أثرهم. وسنقوم ولو بأضعف الإيمان، بنبش صفحات هذا الملف الأسود للشيوعين والقومنجية حتى يتوبوا ويعتذروا ويحاسبوا بما يكف أيديهم من تكرار هذه المآسي.
وستظل الذاكرة الوطنية حية وسنكون وكل ابناء الشهداء أبدًا أوفياء لدماء الشرفاء الذين واجهوا القمع والقتل وعلى رأسهم الإمام الشهيد الهادي المهدى وصاحبيه والشهيد محمد صالح عمر والشريف حسين الهندي. ونسأل الله ان يتقبلهم في اعلى الجنان إنه ولي ذلك والقادر عليه.

مواضيع ذات صلة

تقرير: 1140 حالة اختفاء قسري خلال عام من الحرب في السودان

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: دعوها فانها مأمورة ..!!

عزة برس

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: استفهامات بريئة جدا ؟!

عزة برس

على كل.. محمد عبدالقادر يكتب: دموع مريم… وهروب حمدوك

عزة برس

تمبور السودان عصي على التركيع وصامد امام اعتى العواصف

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: تفسير مفهوم مصطلح (تكنوقراط) انجب مولود مشوه ..!!

عزة برس

اترك تعليق