المقالات

سفير قطر الجديد بالسودان .. والبحث عن خارطة طريق.. د. محمد خليفة صديق

في الثلاثين من إكتوبر الماضي أصدر أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، القرار الأميري رقم 49 لسنة 2022، بتعيين السفير محمد إبراهيم تاجر محمد السادة، سفيراً فوق العادة مفوضاً لدى السودان، وجاء تعيين السفير محمد السادة، خلفاً للسفير عبد الرحمن بن علي الكبيسي، الذي انتهت فترة عمله في الخرطوم، ومنحه رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وسام النيلين من الطبقة الأولى بمناسبة انتهاء فترة عمله بالبلاد، وتقديراً لجهوده في تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين.
وينحدر سفير قطر الجديد بالخرطوم من قبيلة السادة، وهي إحدى القبائل القطرية المعروفة، وموطنها مدينة الرويس شمال قطر، التي أسسها الجد الأول لقبيلة السادة السيد أحمد بن كاسب، وعند التنقيب في ثنايا السيرة الذاتية للسادة نجد أنه يحتفظ بسيرة باذخة في خدمة وزارة الخارجية القطرية فقد تدرج في وظائف السلك الدبلوماسي، وتنقل في عدد من المحطات، أبرزها مصر (أخت بلادي الشقيقة) حيث عمل مستشارا بالسفارة القطرية بالقاهرة حتى 2017م، حيث نُقل إلى ديوان عام الوزارة بالدوحة بالقرار رقــم (15) لسـنة 2017م للشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني وزيــر الخـارجيــة القطري، والذي نص في مادته الأولي علي نقل عدد من الدبلوماسيين القطريين من وظائفهم بالخارج إلي ديوان عام الوزارة.
ومحطة القاهرة في سيرة السفير السادة تؤكد أن اختياره في أول خروج له كسفير فوق العادة مفوضا لقطر في سفارة لبلاده، أن اختياره تم بعناية وتدقيق، بحكم العلاقة الوطيدة للسودان بمصر، حيث أن البلدين كانا دولة واحدة قبل عقود، وتربطهما علاقة أزلية، ولذا رأت القيادة القطرية أن السفير السادة سيكون سفيرا مناسبا لقطر في الخرطوم بحكم هذه الخبرة المميزة، وأن من ينجح كمستشار في سفارة قطر في القاهرة لابد أن يدرك الأمر نفسه وأكثر في منصب السفير في الخرطوم.
من الفأل الحسن لمقدم السفير السادة على الخرطوم أن تقديمه لأوراق اعتماده لرئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان كان يوم عيد المسلمين الاسبوعي يوم الجمعة، وكان أول برنامج للسفير السادة بعد تقديم أوراق الاعتماد شهوده لبداية مباريات كأس العالم في قطر بسينما بونو بنادي النيل العالمي بالخرطوم، حيث استقبل المدير العام لمجموعة بونو محمد السر وفريق عمله سعادة السفير ومرافقيه عند بوابة النادي بحفاوة بالغة، واحتفى بالسيد السفير رواد سينما بونو متابعي كأس العالم، والتقطوا معه صورا تذكارية وصفقوا له وهتفوا لقطر ورددوا (كلنا قطر)، كما بادل السفير السادة الحضور من الشباب مشاعرهم الفياضة بمودة وبشاشة، وتعهد بالعمل على تطوير علاقات البلدين على المستوى الرسمي والشعبي، وأبدى تقديره لمؤازرة السودانيين لمنتخب بلاده ولدعمهم المعنوي لاستضافة قطر لأهم حدث كروي في العالم.
وعند تقديم السفير السادة نسخة من أوراق اعتماده لوزيرة الخارجية السفير علي الصادق، أعرب السفير السادة عن سعادته بالعمل في السودان، مشيرا إلى عزم القيادة القطرية على تطوير التعاون بين البلدين في كافة المجالات لتعود بالنفع على الشعبين الشقيقين. وفي الاحتفال باليوم الوطني لدولة قطر والذي نظمته السفارة القطر بالخرطوم بمقرها بالمنشية، أشار السفير محمد إبراهيم السادة الى الإنجازات الكبرى التي تحققت في دولة قطر في المجالات السياسية والاقتصادية والرياضية والصحية والتعليمية وغيرها من المجالات في إطار منظومة التحديث التي قادتها القيادة الحكيمة، وتحدث عن استضافة دولة قطر لبطولة كأس العالم والتي أظهرت الهوية الحضارية لدولة قطر بالإضافة الى قدراتها في كافة المجالات، كما أكد أن العلاقات بين السودان وقطر متينة وتاريخية، مشيراً الى موقف قطر الثابت والداعم لوحدة وسيادة واستقرار السودان، وحرصها على دعم العلاقات الثنائية بين البلدين.
مما سبق نتوقع أن يمضي السفير السادة قدما في خدمة السياسة الخارجية لدولة قطر في السودان، والتي تنص المادة السابعة من الدستور الدائم للدولة على أنها تقوم على مبدأ توطيد السلم والأمن الدوليين عن طريق تشجيع فض المنازعات الدولية بالطرق السلمية، ودعم حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والتعاون مع الأمم المحبة للسلام. وقطر كانت لها أياد بيضاء في هذا الصدد في تحقيق سلام دارفور عبر وثيقة الدوحة بجانب دورها في جهود تنمية وإعادة إعمار دارفور، والتي بدأت بعقد مؤتمر المانحين لإعادة الإعمار والتنمية في دارفور بالدوحة في 7-8 أبريل 2013، والذي تم فيه إعداد استراتيجية التنمية في دارفور بواسطة حكومة السودان، والسلطة الإقليمية لدارفور، ووكالات الأمم المتحدة، وشركاء التنمية الدوليين لتسهم في تعزيز مبادرة التعهد بتقديم الدعم، وخصصت قطر مبلغ 800 مليون دولار لدعم تنفيذ المشاريع التأسيسية وقصيرة الأجل الواردة في استراتيجية تنمية دارفور.
كما سعت قطر من خلال صندوق قطر للتنمية لتنفيذ مجموعـة مـن المشـاريع هدفهـا دعـم برنامـج العـودة الطوعيـة للنازحين وبنـاء الثقـة فـي مسـتقبل قائـم علـى الأمـن والاسـتقرار للحيلولـة دون العـودة للعنـف، وذلك من خلال إنشـاء عشر مجمـعات خدمية نموذجـية بـكل ولايـة مـن ولايـات دارفـور، يشمل كل مجمع: مستشفاً ريفياً، ومركزاً للشرطة ومسجداً، ومحطة مياة، ومحطة كهرباء، مدرستي أساس، ومدرستي ثانوي، ومجمـعاً سـكنياً للعامليـن فـي هـذه المراكـز الخدميـة، ويشـمل أيضـا تمكيـن الأسـر بتوفيـر سُـبل كسـب العيـش، وكذلـك تعزيـز الوئـام والسِـلم الاجتماعـي، بالإضافـة إلـى تمكيـن الأسـر مـن بنــاء ســكن نموذجــي لهــم، كما نفذ صندوق قطر للتنمية برنامجا للإنعاش المبكر بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة الإنمائي(UNDP) بهــدف بنــاء الثقــة فــي مســتقبل يقــوم علــى السلام والاسـتقرار، وتقليـل الاعتمـاد علـى المسـاعدات الإنسـانية، وإيجـاد بدائـل حقيقيـة للشــباب والنســاء مــن خــلال توفيــر التعليــم وســبل كســب العيــش.
نتوقع من السفير السادة أن يعمل على تنمية وتطوير العلاقات الثنائية بين قطر والسودان في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، ومن أبرز المشروعات التي تحتاج إلى تقوية وتطوير ومتابعة في الجانب الثقافي بين البلدين المشروع القطري السوداني للآثار الذي يمثل طفرةً ونقلة نوعية في إدارة التراث الثقافي السوداني، وهو مشروع يعمل كأداة لتعزيز وتحسين تراث السودان الثقافي ووضعه في مصاف الدول المتقدمة, ويمثل المشروع مظلةً لإثنين وأربعين بعثةً علمية تنتمي إلى خمس وعشرين معهداً علمياً في إثني عشرة دولة هي: السودان, قطر, فرنسا, المانيا, إيطاليا, إسبانيا, بولندا, سويسرا, الدنمارك, المملكة المتحدة, كندا والولايات المتحدة الأمريكية. ونتوقع جهدا للسفير السادة في عودة المشروع لبريقه ومواصلة أنشطة التنقيب وإعادة تأهيل وتحديث المتاحف القديمة، وتنمية مواقع الأهرامات والكشف والصيانة والدراسة والترويج للتراث السوداني العريق، وظهور الآثار الإسلامية السودانية في متحف قطر للفن الإسلامي في الدوحة.
نتوقع كذلك أن تعاود أيادي قطر البيضاء -عبر جهد السفير السادة- على كثير من المؤسسات العلمية والدينية والثقافية والاجتماعية في السودان مثل جامعة إفريقيا العالمية التي كانت قطر وما زالت عضوا في مجلس أمنائها، ومنحت الجامعة سفير قطر الأسبق بالسودان علي بن حسن الحمادي درجة الدكتوراة الفخرية اعترافا بجهوده وأدواره، ومجمع الفقه الإسلامي الذي ساهمت قطر في تأسيسه وبنائه، وكان آخر اسهاماتها في المجمع تشييد قاعة الدوحة الكبرى بالمجمع، ومنظمة الدعوة الإسلامية التي ترأس قطر مجلس أمنائها ومستشفى الدوحة للأنف والأذن والحنجرة الذي يتبع لصندوق إعانة المرضى بالسودان، وجمعية قطر الخيرية ومعهد تدريب الأئمة والدعاة وقاعة الشيخ حمد بوزارة الأوقاف وجامعة أم درمان الإسلامية وقاعة الدوحة بها، وجامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، وعشرات المنظمات الخيرية والإغاثية والإنسانية والدعوية .
نتوقع أن تشهد العلاقات القطرية السودانية في عهد السادة مزيدا من الاهتمام بجوانب الدبلوماسية الاقتصادية، فقد نشر موقع ” Africa Intelligence ” قبل أسابيع تقريرا كشف فيه اعتزام قطر تعزيز مكانتها في السودان كأحد أكثر المستثمرين فيها خلال المرحلة القادمة، مؤكدا أن الدوحة تستهدف مجموعة من القطاعات الواعدة في الخرطوم وغيرها من المدن الأخرى، وعلى رأسها الزراعة لسد الطلب المحلي في العديد من المحاصيل الزراعية، والمشاركة في عملية تحقيق الأمن الغذائي لقطر عبر الوصول بهذه الخضراوات إلى الفواكه إلى الدوحة، وفق ما يتماشى مع رؤية قطر 2030.
وبيّن التقرير أن توجه قطر نحو إطلاق المزيد من المشاريع الزراعية في السودان لن يقتصر على المحاصيل الغذائية وفقط، بل سيتعدى ذلك نحو التوسع في مجال الأعلاف الذي يتميز به السودان، والذي تملك فيه قطر مجموعة استثمارات لشركة حصاد للمواد الغذائية، وأضاف التقرير أن البنية البنية التحتية ستنضم إلى قائمة المجالات التي تنوي الدوحة الاستثمار فيها خلال الفترة القادمة، واصفا القطاع بالأرضية الخصبة والمحتاجة إلى العديد من المشاريع الجديدة، وهو ما بإمكان الدوحة التركيز عليه في المرحلة القادمة بهدف تعزيز وجودها في السودان، والتأكيد على موقعها كأحد أبرز المستثمرين الأجانب في الخرطوم، متوقعا إعلان قطر عن دخولها في مجموعة من المشاريع الجديدة المرتبطة بهذين القطاعين بعد نهاية كأس العالم 2022، وبالذات في الفترة المرتبطة ما بين شهري يناير ويونيو من العام المقبل 2023، في ظل وجود مفاوضات مع المسؤولين في كلا البلدين، وعمل الجهات القائمة على الاستثمار الأجنبي في السودان، على تقديم كل التسهيلات اللازمة للمستثمرين القطريين الممثلين للقطاع الحكومي أو الخاص.
وتمثل الاستثمارات القطرية في السودان نسبة كبيرة من الاستثمار الخارجي في السودان، من خلال المؤسسات القطرية، مثل بنك قطر الوطني، شركة الديار ومشروع مشيرب العقاري في قلب الخرطوم، شركة وِدام، شركة حصاد العاملة في مجال المشروعات الزراعية، شركة بروة العقارية، قطر للتعدين، بجانب عدد من الأفراد المستثمرين في المجال الزراعي والتجاري، وتعد الخطوط القطرية من أميز الشركات التي تقدم خدماتها للمسافرين من وإلى السودان. وقد يعود للسطح أيضا الاتفاق المبدئي بين السودان وقطر قبل سنوات للتطوير المشترك لميناء سواكن بقيمة 4 مليارات دولار، والذي وقعه عن الجانب السوداني مدير هيئة الموانئ السودانية آنذاك عبد الحفيظ صالح، وعن الجانب القطري حسن الهيل، مستشار وزير المواصلات والاتصالات القطري، بحضور وزير المواصلات القطري جاسم بن سيف السليطي، الذي أشاد بتطور العلاقات السودانية القطرية، مشيرا إلى أن اللجان الفنية ستعكف على وضع خطة التنفيذ كاملة فيما يتعلق بتأهيل ميناء سواكن، وأن بلاده تتطلع للمزيد من الاستثمار في السودان حسب الخطة المدرجة، وقال ” الميناء سيستخدم لجلب المواشي السودانية لقطر لتحقيق المنافع بين البلدين”.
نتوقع من السفير السادة تنفيذا عمليا لعزم القيادة القطرية تطوير علاقات التعاون الوثيق بين البلدين في كافة المجالات لتعود بالنفع على الشعبين الشقيقين؛ فالسياسة الخارجية القطرية كما لمسناها في مظانها منفتحة على السودان، ويجب علينا كسودانيين أن نتفهم طبيعة السياسة الخارجية القطرية التي تقوم على الهدوء في معالجة القضايا والتعامل معها والبعد عن صخب الإعلام، كما أن علينا أن نتعرف بدقة على طبيعة الانسان القطري، وكيف يتعامل مع الأمور، وكيف نجح هذا الانسان في إدارة كثير من الملفات آخرها هذه النسخة غير المسبوقة من كأس العالم، والتي أدخلت المنطقة العربية والإسلامية للتاريخ من أوسع أبوابه.
نعلم أن قطر قيادة وحكومة وشعبا تريد علاقة أفضل وأرقى مع السودان، لكن يجب علينا كسودانيين أن نعترف جهرا أن أوضاعنا السياسية والاقتصادية المتسمة بالسيولة والهشاشة والضبابية لا تشجع أحدا على أن يملأ يده في علاقة استراتيجية مع السودان.
ختاما .. خصوصية العلاقات السودانية القطرية لا تنبع من أبعاد اقتصادية ومصالح هنا وهناك، بل فيها بُعد وجداني شعبي من عامة أهل السودان لأهل قطر والعكس، نما هذا الشعور الراقي مع الزمن، وهو شعور طبيعي بالود الحميم، تجده في حقول الحياة المختلفة في كرة القدم والتعليم والصحة والسياسة والثقافة وغيرها، وحينما تمت تسمية السفير محمد إبراهيم السادة سفيرا لقطر بالخرطوم تذكرت رائعة شاعرنا الكبير أحمد محمد الشيخ الشهير بالجاغريو، والتي غناها عميد الفن السوداني أحمد المصطفى، والتي تقول في مطلعها: يا السادة ألميني .. عن ريدو كلميني .. يا السادة بكل صراح .. من نظرتك أنا عقلي راح . وهذه مناسبة أن نهدي للسفير السادة هذه الأبيات، وهو يخطو خطواته الأولى في الخرطوم، وهي قصيدة قيلت في الأربعينيات من القرن الماضي، وأترك للقارىء الحصيف تحديد مناسبة الأبيات مع موضوع المقال، والاستعانة بقاموس اللهجة العامية في السودان لأستاذنا البروفسور عون الشريف قاسم عليه رحمة الله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *