مقال

عملية جسر لندن .. الملكة يا حليلها بقلم : ابراهيم أحمد الحسن

راجت ثقافة الموبايل في بداياته الأُوُل وانتشرت معها المصطلحات الجديدة بين الشباب من مستخدمي الهاتف السيار آنذاك انتشار النار في الهشيم ثم لم تلبث هذه المصطلحات ان دخلت قاموس العامية في السودان. ترسخت ثم سادت ، خاصةً المصطلحات الخاصة ببطاقات اعادة تعبئة الرصيد ( كروت الشحن ) وفئاتها ، الرصيد المستخدم والمتبقي منه .
حينذاك زرنا قريبنا الذي يستشفى في احدى مستشفيات العاصمة . وكانت حالته متأخرة بل كان يحتضر ، عُمدة الذي كان يرافقني في الزيارة قال لي ( الراجل دا باقي في رصيده جنيه واحد فقط ) ، دعونا له بالشفاء وانصرفنا . وعند الفجر اسلم الرجل الروح لبارئها وتم تناقل الخبر بين الاهل . رن جرس الهاتف عندي فجرا ، وكان عُمدة الذي ترافقنا وإياه في زيارة المستشفي علي الخط ليقول لي كلمتين فقط ( الكرت كِمِلْ ) .
ابن عمتي محمد أحمد رجل ساخر بطبعه ومرح ، يتعاطى النكتة كما يتنفس الهواء ويتخذ مسارات عديدة لتلكم السخرية التي لا تبخس الناس اشياؤهم ولا تحط من قدر احد او تخدش احترام الشخص لنفسه والاخرين . اتصل علي ذات مرة ليقول لي ان امه ستلعب مباراة الفاينال مع خالته . خالة محمد احمد هي عمتى الاكبر علي الاطلاق في نسل جدي من جهة الوالد ،لديها من الاشقاء والشقيقات ما تجاوز الدستة بواحد ، وتطبيقاً لسنة الله في الكون ولان الموت حق وهو آت لا محالة فكل نفس ذائقة الموت ،فكان من الطبيعي ان يرحلوا وقد عاشوا في الحياة الدنيا عطاءً ممتداً وخلدوا انفسهم في سجل الحياة ذاتها بذرية صالحة انتشروا في الارض يعمرونها بالبذل والعطاء والجد والاجتهاد والعمل الصالح . كانت عمتي (سين ) هي الاكبر عند جدي وصار اشقائها وشقيقاتها يمضون واحد تلو الاخر الي جنة عرضها السموات والارض بما كسبوا من الفضل وبالصدقة الجارية وبالذرية الصالحة التي تدعوا لهم . وتبقى من الثلاثة عشر كوكباً ثلاثة فقط : عمتي (سين ) والحرم عمتي الثانية والدة محمد احمد و عمة ثالثة إسمها الروضة .
وعندما اتصل بي محمد احمد بأن امه الحرم وخالته (سين)سيلعبان المباراة النهائية، علمت ان عمتي الروضة قد انتقلت الي جوار ربها تقدمت له بالعزاء ودعوت لها بالرحمة ولم ازد . وعندما انتهت مراسم العزاء انتحيت به جانباً وسألته عن توقعاته من الذي سيفوز بالكأس فقال لي مبتسماً ( أمي .. طبعاً ) قال ذلك وهو يداري دمعة لم يستطع حبسها حزناً علي من فقدنا من الاخيار .
نقلت ما دار بيني وابن عمتي محمد احمد لشقيقي الاكبر الذي ابتسم وقال لي بخطل توقعات محمداحمد ومجافاتها للصواب وقال لي بل عمتي (سين ) هي التي ستفوز بالكأس .
مرت الايام (درايش) كما يقول حبيبنا الراحل حميد في قصائده العصماء و(سودانا محتار كيف هو عايش؟) ، وانا في سفرٍ بعيد اتصل بي شقيقي الاكبر ليقول لي ان عمتي (سين ) قد فازت بالكأس وعندها علمت ان عمتي الحرم قد فارقت الدنيا راضية مرضية ومضت الي رحاب ربها ،عزيته ودعوت لها بالرحمة ، مسحت دمعتي واتصلت بإبنها محمد احمد ليعزيني في وفاة عمتي التي هي والدته . مضت سنوات خمس قبل ان ترحل عمتي (سين)عن عمر ناهز المائة والخمس من السنوات ، رحلت وقد فازت بالكأس نظير اعمال صالحة امتدت طوال هذا العمر الذي بذلته في السعي للخير والاعمال الصالحات .لم يتصل شقيقي الاكبر ليبلغني بوفاة عمتي (سين) آخر عنقود الراحلين من الاعمام والعمات علي طريقة ابن عمتي محمد احمد ، لم يفعل ذلك لانه يعلم ان الحزن عليها يعدل حزننا علي كل من سبقوها ولانه يعلم انها آخر الراحلين الذين (هيجوا بالرحيل فؤادي ) رحيل يذكرنا بمن غابوا عن الدنيا وتركوا أثراً باق . بل قال لي البركة فينا وفيكم في عمتي . ولانها العمة الوحيدة التي بقيت علي قيد الحياة فما كان بحاجة ان يذكر اسمها . رحلت العمة سين ( ملكة فوق جيلها ) وأسدل الستار علي قرن وسنوات خمس من الحياة التي عمرتها بفعل الخير.
تذكرت ذلك وانا اتابع وفاة ومراسم دفن الملكة اليزابيث الثانية ، المراسم الدقيقة والمعقدة وشديدة الاهتمام بالتفاصيل تثير الاعجاب . ولكن اكثر ما لفت انتباهي بعد الاسم الرمزي لهذه المراسم والذي اطلقوا عليه عملية جسر لندن ، هو شفرة ابلاغ الخبر لرئيس الوزراء اذ عند ثبوت وفاة الملكة يتعين الاتصال ب رئيس الوزراء ليقال له ( سقط جسر لندن ) وعندها سيعلم رئيس الوزراء ان الملكة قد ماتت ، وهي العبارة التي يستدل بها الوزراء والموظفين الرئيسيين للعلم بوفاة الملكة ويبدأون في تنفيذ عملية مراسم الدفن الطويلة والتي تمتد لايام .يقال وانه وبعد أن أصبحت العبارة السابقة والعملية معروفتين للعامة فإنه من المرجح أن تكون قد تغيرت.
عُمدة مرافقي في زيارة المستشفى سبق المراسم الملكية في قصر بيكنجهام في اطلاق ( شفرة الرحيل ورمزه) الاول ، وسبق ابن عمتي محمد احمد القصر الملكي البريطاني في اطلاق (شفرة الرحيل ورمزه) الثاني فجعل خالته (سين ) تلعب الفاينال مع أمه الحرم علي الكأس ، وحضر تتويج خالته (سين ) ملكة (فوق جيلها ) بالكأس عن عمر تجاوز عمر ملكة بريطانيا ب بتسعة سنوات .
رحيل عمتي وفوزها في مباراة الكأس ، تجعلني اردد (فراقك ماهو بالنية / بس حاكمانا جبرية / ريسوها فوق جيلها / الملكة يا حليلها )

مواضيع ذات صلة

على كل.. محمد عبدالقادر يكتب: غباء (قحت).. (الكيزان و فرز الكيمان)

عزة برس

وھج الكلم .. د حسن التجاني يكتب:( الحياة بقت مسيخة)….!!

عزة برس

رسالة من عبدالحميد كاشا في بريد هؤلاء

عزة برس

أجراس فجاج الأرض.. عاصم البلال الطيب يكتب: بين جيشين فى كسلا وبورتسودان

عزة برس

عمار العركي يكتب: مقاومة والي القضارف لمقاومة ولايته الشعبية

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: المسكيت: أرى أشجارا تسير ..!!

عزة برس

اترك تعليق