المقالات

راشد عبدالرحيم يكتب: قصاصات في ذكرى يوليو 1971م ..(2)

أيامنا مع الحزب وايامي معه لم تكن كلها بهذا العنت وكان فيها لطف ومعارف وتجارب.
من الطرائف ان الاستاذ الفنان محمد وردي كان يأتي لوالدي ظهرا ويتحدثان وهم وقوف امام باب البيت.
اول زيارة له و عندما طرق باب البيت اتيته و قلت له هل تريد والدي قال نعم ذهبت وأيقظت أبي من نومة الظهيرة المهمة له فعدت للأستاذ و قلت له أن والدي سيات اليك و تحركت نحو موقع لعبي فناداني الأستاذ وفتح الباب الخلفي للسيارة، وكان فيه اثنين من اكياس الورق الكبيرة التي توضع فيها المشتريات من سوق الخضار (الزنك) وسط الخرطوم .
فأعطاني منها عنقودا من العنب اخذته وانا فرح واستمتعت بهذه الهدية الحلوة، والتي أستمرت لأيام كنت خلاها اترقب سيارته (الحمراء) وهي تتهادي من الشارع وهو اليوم شارع معرض الخرطوم و جوار شرطة المباحث .
تمر الايام ويأت الأستاذ في زيارة للسودان من مصر وبدعوة من شركة دال ومديرها السيد اسامة داؤود والذي أقام لوردي دعوة عشاء في منزله ودعيت لها.
في نهاية الجلسات تحلق المدعوون لأنس الوداع بعد جلسة جميلة فناداني الفنان ووردي وسألني عن احوال عدد من اهل بري.
قلت له تتذكر يا استاذ العنب الذي كنت تتحفني به وأنا صغير قال لي كيف؟ ما نسيت لكنك لم تفهمني قلت له اشرح لي فقال لي (انا كنت أديك العنب لتأكله و انت صغير و تشربه لما تكبر لكنك عملتها لي اخوان مسلمين و دين و حاجات عجيبة).
وكانت هذه الطرفة محطة وقفت عندها والتي اكدت أن الممارسة التي وجدتها منهم وربما عدد قليل من جهروا بمثل هذا، ولكن التوجه العام منهم انهم ما كانوا يعبرون عن معتقد ديني يوافق موقفي من الدين.
حينها لاحظت انه رغم تردد كثير منهم علينا ما رأيت فيهم من يصلي الا واحدا وكان اسمه شريف وكان يطلب مني سجادة للصلاة.
من الخبرات الجميلة التي تعلمناها من الحزب وعبر واحدة من لافتات وهي (القوي الاشتراكية بالبراري) فقد كان ينظم حفلات للنفير ننظف فيها الطرقات والمدارس وغيرها وفي الامسيات تنظم وقفات غنائية ومسرحيات وندوات.
اذكر من المحاضرين الاستاذ الصحفي طلحة الشفيع والذي زاملته لاحقا في جريدة الصحافة.
وإذا اسعفت الذاكرة فان منهم الاستاذ عبد الله جلاب الذي شغل منصب وكيل وزارة الثقافة والاعلام ومنهم شاب لطيف اسمه عياض عوض ومنهم الدكتور لاحقا محمد المهدي بشري المختص في الفلكلور وهو شديد اللطف والتهذيب.
وأذكر والدته السيدة سكينة عالم الشيوعية والتي كنت أزورها مع عمي احمد عبد الوهاب وهو العامل الوحيد الذي كنت اعرف في الحزب كنا نجلس اليها ولها مجموعات من كتب الماركسية وكتب تفسير القرآن والتجويد.
كان عمي يحبها جدا ويدخل معها في نقاشات لم أكن افهم الكثير منها.
كان لسكينة عالم الشيوعية حلقة في مسجد بري المحس تدرس فيها النساء تجويد القرآن

لم تكن هذا المآسي هي الوحيدة التي ألمت ببري المحس إذ فجعت في اليوم الثالث بأحداث ومجزرة بيت الضيافة وكانت الصور المؤلمة تملأ الصحف والتلفزيون.
كان من شهداء ذاك اليوم المؤلم من أبناء الحي النقيب كمال سلامة وهو من الشباب المتميز ومن اسرة فاضلة كان هو عمادها.
عاشت بري المحس أياما كئيبة خاصة مع ساعات حظر التجوال وكان الرعب رفيقنا في تلك الليالي وعانينا من توجس وخوف من زوار الليل وما تبثه الاذاعة والتلفاز من اخبار مؤلمة لوالدي والذي فقد اعزاء في الشجرة وفارقه غيرهم إلي السجون.
منهم عدد من سكان بري من بينهم الفنان المشهور محمد وردي والذي أستأجر وسكن في الحي في واحد من بيوت أهلنا الكرام الهاشماب.
كنت لا أفهم غياب من كنا نعرفهم من الحزب إذ لم يأتنا من يريد التعرف على احوالنا ومن يواسي أو يساعد في محنتا المكللة بالرعب وبعدها غياب الوالد وما يتبعه من عنت نفسي وتوقف الدخل لرجل يعمل عملا خاصا، ولكن الحمد لله ما كنا في حاجة، ولكن هذا الغياب كنا نحسه وربما ان المصيبة كانت كبيرة ومفاجئة للحزب.
شكلت مجزرة بيت الضيافة عقابا مستحقا للحزب بين للناس صورة اخري للعنف والدماء التي سالت بسببه ومنه.
كانت حادثة فظيعة ذكرت الناس بما جري في الجزيرة ابا وكيف احتفي بها الحزب وفرح بها اعضاؤه ومنهم للأسف والدي.
كان مؤلما لي ان يحتفي والد بقصص الابرياء والأطفال والنساء في الجزيرة أبا والرصاص يحصدهم والتشنيع بالرجال أيضاً، وهم يعرضون الملابس الداخلية للنساء والتي زعموا أنها وجدت في غرفة الامام وايضا عرضوا زجاجات الخمر لإشانة سمعة زعيم مثله.
مع هذا الاحتفاء فقد تجاهلوا تماما احداث بيت الضيافة و سكتوا عنها و كان والدي يلزم الصمت عن الحديث عنها فمنعت اخوتي من الحديث عنها في حضوره كما كنت احول الحديث عنها اذا تناولها ضيوف لنا في حضرته .
والدي ورغم معاملته الحسنة والمميزة معنا إلا أنه كان يعاملني بحدة أحيانا والمؤسف ان أشد ذلك كان في شأن عبادتي وصلاتي وصيامي و ذلك ما رسخ في ذهنه من بعض من اوغروا صدره و لسعيه أن يبعدني من يظن انهم يؤثرون عليه و الذين يري فيهم خصما .
خرج يوما وعاد قبل أذان المغرب مهتاجا اذ كان مع بعض الرفاق الذين اوغروا صدره علي وكانت شواهدهم ترددي على المسجد وقالوا له هو اليوم صائم.
حضر والدي من فوره الي الدار وفي غضبه وهوجته أخذ صينية افطاري وصاح في هذا صيام الاخوان المسلمين وانت أصبحت منهم ورمي بها الي الحائط وطردني من الدار.
والدتي استبان لها الامر من بعد فهجرت الحزب الا من بعض صداقات احتفظت بها ومنها مع الزلال حمد الله والتي استمرت الي حين وفاة والدتي عليها الرحمة والبركات.
هذا التباين في البيت بين الوالد والأبناء والوالدة لم يمنع حسن العلاقة بين الاسرة وكان منزلنا في أيام الانتخابات يخرج صينتين في كل واحدة من الوجبات الثلاث واحدة إلى خيمة الشيوعيين واخري الي خيمة الجبهة الاسلامية.
وأذكر بعد وفاة والدي وعند زواج شقيقتي بعد وفاة والدي أن دعوت صحبه من الحزب، وطلبت من الاستاذ نقد أن يكون وكيل العروس في عقد قرانها واخبرته ان الرئيس البشير سيكون حاضرا و لكنه لم يشرفنا بحضوره الذي كان سيسعدنا كثيرا وأسفت لذلك.
عند سفر والدي للعلاج في مصر و أنا معه في المستشفي أرسلت رسولاً لمن كان منهم هناك فما حضر أحد وربما يكون رسولي لم يوفق في توصيل رسالتي.
شاءت ارادة الله ان تكون وفاة والدي في مصر وكنت في معيته وكنت سعيدا بمحافظته على الصلاة واهتمامه بحجر التيمم، وأكرمه الله ان كانت آخر لحظات حياته أن ردد الشهادة بين يدي وتوفي بعدها بساعات وهو في غرفة العناية الفائقة
رغم هذه النماذج كان لبعض الشيوعيين افكار كنت انفر منها وتزعجني حينها ومنها مواقف ومعتقدات ذاك الشاب الشيوعي الذي كان يقول لي (يعني ايه تقرأ قرآن في الصلاة يعني لو قريت قصيدة جاهلية عميقة مش نفس الحكاية).
هذا دفعني ملاحظة أننا كنا في أنشطة الحزب التي كان ينظمها من خلال لافتة القوي الاشتراكية اننا ننظف المسجد وإذا حانت الصلاة خرجنا وجاء غيرنا للصلاة.
مع هذا التباين فهمت به وبعدها ان هذه الانشطة شكلت موطئا لجر العديد من الشباب للحزب.
لاحقا عندما استقرت الاوضاع نظم الحزب رحلة علاج لوالدي الي موسكو اذ كان يعاني من مرض في عينه اليمني بسبب مرض السكر،
وكان الرفاق الذين يقومون علي تنظيم الرحلة يأتون الي بيتنا خلسة وكانوا يتوجسون مني بينما كنت أراقب الطرق عند زيارتهم خوفا من (العسس) الذين ربما أفشلوا جهودا لعلاج والدي.
اذكر ان الاستاذ نقد زاره في المنزل قبيل سفره وحضر في سيارة بوكس من الذي يصنع له صندوق مغلق ومن النمط الذي كان يستخدم حينها في نقل الركاب و كانت وسيلة جيدة للتخفي .
عاد والدي من رحلته معافي بحمد الله وبفضل ما قدمه الحزب لرجل جاد له بوقته وماله.
رغم هذا النشاط للحزب وبعض النماذج التي قدمها والأنشطة الفنية التي كانت تستقطب الشباب إلا أن الحزب لم يستطيع بناء ارضية له ولم يفلح أيا منهم الفوز بثقة الحي وفشلوا جميعا وكان منهم والدي الذي سقط في انتخابات محلية حينها بينما فاز منافسيهم من الاحزاب الأخرى ومنهم من جبهة الميثاق الاسلامي.
خبرة كبيرة نلتها من تلكم الإيام واستقيتها من الذين خالفتم والذين واليتهم.
كان أبرزها الاحترام والتقدير لهم جميعا، وظلت علاقاتي بالجميع حميمة.
بل افلحت في بناء ثقة في أبنائي وحثهم علي حسن الصلة بكل من يعرفونه غض النظر عن الخلاف وتباين الرؤي وحرصت على اتاحة الحرية لهم واحترام خيارتهم.
بحمد الله كانوا كما أحب في الاستقلال بالخيار وصحبة الناس بالحسني.
تجاربي هذه التي مررت بها اعتز بها دوما واري انها تشكل وتعبر عن تفاعلات المجتمع السوداني بكل أطيافه.
أتمنى عن تكون هذه الأسطر نافعة ومفيدة ودافعا لغيري أن يطرحوه ما عاشوه من مثلها علها تكون خطوات في التعرف على تأريخ بلدنا بكل اطيافه ومكوناته.
اللهم ان أحسنت فمنك وإن اخطأت فمني ومن الشيطان.
إلي جانب هذه الأمثلة كانت هنالك أخري لاحقا لم تكن توافق أفكاري ومعتقدي وتديني واذكر مثالا لأحد شباب الحزب والذي كان يتهكم من تديني وصلاتي وكان يقول لي (ماذا يعني أن تقرأ القرآن في الصلاة ما الذي سيحدث إذ قرأت بدلا عنها في صلاتك قصيدة من الشعر الجاهلي) إضافة إلى مواقف أخري شبيهة.
إذ اكتب هذه السيرة والتجارب إنما أرمي من خلالها إلى تقديم تجربة وصورة داخلية مختصرة لأهم اثنتين من القوي والأحزاب السودانية.
فقد توفرت لي فيها تجربة ظني أنها تستحق ان ينظر إليها.
عايشت في تجاربي العديد من المواقف وخرجت منها بأهمية أن يختبر أهل السودان معرفة وقدرة على التعايش والتفاكر بما فيها من حسن الصلات والاحترام رغم تباين المواقف.
حاولت ان تكون هذه المعاني حاضرة في بيتي يتحلى بها أبنائي وحرصت أن أتيح لهم حرية الاختيار مع احترام الغير فكانوا عن حسن ظني.
آمل ان تكون هذه الذكريات وما فيها من وقائع مفيدة ومحققة للمعاني التي أردت توصيلها.

مواضيع ذات صلة

عمار العركي يكتب: خبر وتحليل: – مجلس الشيوخ الامريكي ومجلس الشيخ الإماراتي

عزة برس

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: ايها السادة .. انتبهوا !!

عزة برس

أماني الطويل ومعطوب القول!! بقلم: عمر عصام

عزة برس

تقرير: 1140 حالة اختفاء قسري خلال عام من الحرب في السودان

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: دعوها فانها مأمورة ..!!

عزة برس

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: استفهامات بريئة جدا ؟!

عزة برس

اترك تعليق