المقالات

كتب راشد عبدالرحيم : بري المحس: الحزب الشيوعي والعنف..كيف نجوت وأهل بيتي من رصاص شهر يوليو المنهمر

(1)
حي بري المحس هو الحي الاول جغرافيا في منطقة البراري وهي منطقة متميزة جغرافيا وأيضا في حراكها الوطني.
إذ أنها تمثل الحي الذي شكل نواة الخرطوم العاصمة السودانية.
وعماد سكانه من المحس الذين وفدوا من توتي وينتسبون إلي شيخ إدريس ود الأرباب وأول بناتها الشيح حتيك قسومة وابراهيم البداني والمسمى ابراهيم ولد توتي.
موقع بري المحس وضعها في دائرة الأحداث الكبري والتأثر بكل نشاط يقع حولها وقربها من وحدات الجيش و القيادة العامة و مطار الخرطوم.
هذا الموقع جعلها وسط نيران عدد من الانقلابات منها ما وقع في ١٩ يوليو ١٩٧١ م و٢ يوليو ١٩٧٦ م.
يتميز الحي بانه احتوي منازل ومؤسسات مهمة منها الشرطة وكلية الشرطة ومحطة الكهرباء الأكبر حينها في البلاد كما يضم مساكن لأساتذة جامعة الخرطوم، ومهندسي وموظفي الكهرباء والمياه.
سكن الحي كثير من منتسبي هذه المؤسسات التي كانت تشكل قمم الاستنارة والعلم حينها فقد سكن الحي اساتذة وموظفين كثر من جامعة الخرطوم ومن تخرجوا فيها إضافة الي موظفي ومهندسي الكهرباء والمياه وضباط وقيادات الشرطة.
هذا التنوع جعل من البراري وبري المحس تحديدا موطن استنارة ومشعل علم ومعارف.
من هذا التداخل عرفت البراري الاحزاب والسياسة واحتضنتها الي يوم الناس هذا
كان للإخوان المسلمين وجود قليل، ولكنه مؤثر بينما حظي الحزب الشيوعي بالوجود الاكبر اضافة الي ان البراري تضم مناطق الاتحاديين الكبيرة خاصة بري اللاماب.
استقبلت البراري العديد من المتعلمين من فنانين ومطربين وأطباء ومهندسين وغيرهم من اصحاب المهن والحرف الرفيعة أسهموا في التكوين المعرفي والفعالية لبري عموما وبري المحس على وجه أخص.
والدي هو عبد الرحيم عبد الوهاب الفكي جده رجل توتي المعروف شيخ ادريس ود الارباب كان من قيادات الحزب الشيوعي في منطقتنا .
كان يلقب ب ( سيسي ) و لعل هذا اللقب ناجم عن حقن الانسولين التي يتعالج بها او من مهنته اذ كان يعمل فني معامل تحاليل طبية و التي امتهنا بسيب مرضه اذ نصحه طبيبة بان يترك الدراسة و يعمل بالمستشفي ليأمن تاثيراته مرضه عليه و ليتمكن من معالجة نفسه لمرض لا شفاء تام منه و لم يكن معروفا حينها .
و الدتي السيدة نور محمدين احمد سليمان لها صلة قربي وثيقة بوالدي كذلك كانت نشطة في الحزب ونشأنا على صلة وثيقة بالعديد من الشيوعيين قيادات عليا ووسيطة وقواعد.
نشأ بيتنا في حضن الحزب (كما كان يسميه الزملاء دون تكملة الاسم بان يلحقه التعريف).
اول بصمات (الحزب) في حياتي أن كان اسمي منه فقد كان والدي شديد الاعجاب بسكرتير الحزب عبد الخالق محجوب والذي اتخذ لنفسه اسما حركيا يعرفه به الزملاء في اوقات الشدة والعمل السري فقد كان عبد الخالق محجوب معجبا بالقيادي الشيوعي والأكاديمي المصري وعالم الاجتماع والمترجم القدير الدكتور راشد البراوي وهو مترجم كتاب رأس المال.
وأراد أبي أن يبر الرجل الذي يحبه بان يسمي ابنه البكر على من يحبه السكرتير العام فكان اسمي (راشد).
نشأت والزملاء في الحزب يسمونني (راشدوف) جريا على تسميات اهل (الاتحاد السوفيتي العظيم).
اول معرفة لي مباشرة بالعنف السياسي ومساهمة في فاتورة النضال انني تعرضت لوابل من الحجارة تساقطت علينا في حشد ضد ندوة نظمها الحزب في حي بري اللاماب.
اصطحبتني والدتي الي تلكم الندوة وأنا لا أزال يافعا.
تجولنا في معرض مصاحب وبدأت الندوة فإذا بالحجارة تتساقط علينا من كل اتجاه ووضعت علاماتها على رأسي وصدغي وعلى والدتي التي حمتني من الكثير منها.
حمدنا الله كثيرا أن والدي لم يصب فقد كان مصابا بالسكر والجرح أثره عليه اشد ضررا من الاصحاء،
هربنا الي دارنا وفي اليوم التالي كنت اسمع حديثا عن مكتبة كانت للحزب في منطقة الندوة وبحث الحزب عن مكان آمن لها وكان الخيار منزل أحد قيادات الحزب وهو والدي الذي سمعت بعدها انه كان سكرتير الحزب في البراري

(٢)
كان منزلنا يتكون من غرفتين وصالتين.
الصالة الاكبر خصصت لاستقبال الضيوف واجتماعات الحزب وشهدت الغرفة في وقت لاحق استضافة رجلا علمنا بعدها أنه أحد الكوادر السرية للحزب.
من الجهة الجنوبية للغرف كان ثمة (زقاق) بطول الغرفتين والصالة وهو المكان الذي وضعت فيه الكتب والتي جمعت في جوالات خيش وكراتين.
كان ذلك في شتاء ننام فيه في الغرفة.
في يوم ونحن في عز منامنا إذا بنار مشتعلة ترسل ألسنتها علينا من جهة (الزقاق) حيث الكتب وكانت نيران قوية متصلة.
اختطفتنا والدتي الي خارجها وبدأت في الصراخ (النار النار)؟ فهب والدي من نومه وأخذنا الي الشارع وإذا بالجيران يفدون من كل منزل منهم من يحمل جردل ماء ومنهم من يحمل كيسا من تراب وبحمد الله خمدت النيران لنجد أنفسنا وسط جمهرة من أهل الحي الذين هرعوا لنجدتنا و مساعدتنا .
صباحا علمنا ان من أشعل النيران جار لنا كنا نعرف عنه اختلالا في عقله وقوة في بدنه.
وعلمنا من الحديث حولنا ان هذا تم بدفع من قوي مخاصمة للحزب.
بقيت الكتب في دارنا زمانا.
وبدانا بدافع فضول طفولي بفتح الجوالات والكراتين والتعرف على ما فيها. ومن الكميات التي نجت من الحريق والبلل.
من كوم الكتب عثرت على جوالات تحتوي على مغلفات جميلة تضم صورا في قمة الجاذبية والجمال وهي تحكي عن مدن وقري ومنشآت في الاتحاد السوفيتي العظيم،
ضمت الصور مشاهد من طرقات المدن وحدائقها وابنيتها كما ضمت صورا لمواقع مصانع، ومنشآت، وجامعات وغيره.
روعة وجاذبية الكتب اخذت بلباب بعض اصدقاء الطفولة ولما رأيت هذا الاعجاب فكرت في بيعها لهم لأخفف النهم عليها ولأحصل على بعض نقود.
كانت تجارة و تجربة مفيدة لي نجمت عن واقعة من العنف والخوف والهلع.

(٣)
يوليو وعنف الرصاص
بري المحس تجاور مطار الخرطوم والمطار العسكري وسلاح الاسلحة وغير بعيد من القيادة العامة كما بينت سابقا.
في نهار يوم خريفي جميل سمعنا أن حدثا كبيرا وقع في البلاد حيث اتضح سريعا أنه انقلاب عسكري.
رأينا الاحتفاء بما وقع في وجه والدي ومن الذين وفدوا لبيتنا وعليهم سيما الفرح والحبور ودب نشاط كبير في البيت واستمر ليومين.
طعام وشراب وأنس واجتماعات تنعقد وتنفض وأناس يأتون ويخرجون.
بعدها بيومين انقلب الفرح فجأة الي خوف وحزن ورعب نجم عن اصوات قوية من رصاص ومدرعات تأتينا من جهة المناطق العسكرية التي لا تبعد كثيرا عن مساكننا ولا عن بيتنا الذي يقع في المربع الثاني من المدخل الرئيس للحي.
ثم بدأت مطاردات كبيرة في الشوارع والطرقات بين مجموعات من عساكر هربوا من القيادة العامة ومطاردين لهم فرأينا قتالا شبيها بما يحدث في الافلام اذ كنا نري امامنا من يشهر مسدسا وكلاشنكوفا وكنا نري من يقبض عليهم ويلقي بهم في سيارات الجيش الكبيرة والصغيرة.
وبدأنا نسمع أن نميري عاد ومن التلفاز والمذياع ينطلق صوت الفنان سيد خليفة ينشد للنميري والجماهير تلتف حول الرئيس وهو في سيارة يلوح لها وهو يلبس زيا عسكريا غير منتظم ويبدو أصغر من مقاسه.

(٤)
ذاك كان يوم خميس بتنا فيه ليلتنا وقد جمعت اهل البيت في غرفة واحدة ملتفين حول والدنا الذي اصابته (صدمة سكري) شديدة جراء عودة النميري وفشل المحاولة.
لم يكن نوما هادئا أبدا ونحن نري السماء تلمع بالرصاص وقذائف المدرعات بصوتها المجلجل والتي علمنا بعدها انها من المدرعات (ت ٥٥) السوفيتية.
كنت قد خطوت الي سن البلوغ ونحن بين احياء فيها اعداد من العساكر والضباط ونسمع عن قصص وحكاوي اسعفتني ان فرشت الارض وطلبت من اهلي النوم في ارض الغرفة وعدم الخروج.
ومع نسمات الصباح اصبحت اصوات احذية العساكر وصليل حديدهم شديدة الوقع والتتابع.
وفجأة ينهمر الرصاص من كل اتجاه ولا تنجو منه شبابيك الدار التي تفتح على الشارع وهي من خشب لا يحول بينها واختراق الرصاص.
إشتد الرصاص علينا ولما كنت الابن الاكبر والوالد مريض نبعت في روحي شدة وعزم أن أحاول معرفة ما حولنا وما يستوجبه من تصرف يحفظ حياة اهلي وحياتي.
ولما كنت في طلائع مايو فقد تعلمت ومن القليل الذي تعلمته الثبات والتحرك وأنا أزحف على الارض فزحفت حتى صرت مواجها للباب الخشبي تجاه الجنود حول البيت وعند توقف لإطلاق الرصاص وهدأة قليلة منهم استغليتها وناديت فيهم اننا محاصرين في غرفة نحن اهل الدار أبي وأمي وإخوتي.
فنادي صوت قوي (معاكم عساكر؟) قلت (لا نحن بس اهل البيت) فقال لي (أخرج) قلت له (ولكن الرصاص) فأجاب لا تخف فتحركت نحو الباب وما ان فتحته حتى وجدت فوهة بندقيتين موجهتان نحوي وعسكري يقف ناظرا الي وآخر يصرخ يدك فوق فرفعت يدي ودخل الجنود يتقدمهم ضابط فعاثوا في البيت بحثا وتكسيرا وتمزيقا حتى مراتب النوم لم تنج منهم

(٥)
وبعد نهاية البحث العنيف اقتادونا أنا والوالد إلي خارج البيت ووجدت حشدا منهم يقف صفا في مواجهة المنزل مشهرين اسلحتهم نحوه وأمرونا ان نركب في سيارة عسكرية صغيرة دون سقف وأيدينا مرفوعة وعاد قائد المجموعة وقال لنا (سنأخذكم معنا) قلت له (إن والدي مريض وقد يحتاج الي سكر لإسعافه إذا دهمته صدمة نقص السكري) فانزلني بصحبة عسكري اقتادني الي المنزل حيث احضرت علبة ملأي بالسكر وركبنا السيارة الجيب.
تحدث قائد المجموعة مع بعض جنوده ثم وجه حديثه لي وقال لي (انزل وسنأخذ والدك) قلت له (إن والدي مريض ويحتاج لمن يعرف مرضه وقد يتعرض لما يهدد حياته وأنا لن انزل وسأذهب معه).
نظر الينا القائد مليا ورجع الي جنوده ثم عاد وتحدث معنا قائلا (لقد وصلتنا معلومات ان في بيتكم جنودا هربوا ولم نجدهم، ولكن الان سنترككم في منزلكم على الا تخرجوا منه وإذا علمنا ان احدا يحتمي في بيتكم من الشيوعيين فسيكون حسابكم عسيرا) وأمرنا بالنزول.
تحدث الي جنوده وأمرهم بالتحرك.
ادخلت أبي إلي البيت وكان منهارا وعليه إعياء وغضب باين في وجهه.
هدأته و أعددنا له ماء وكوب شاي وقطعة خبز فهدأ قليلا.
تركت المنزل وخرجت مسرعا الي منزل الدكتور أبوبكر محمد الامين اخصائي الباطنية والقلب وهو قريبنا جدا وبيته يجاورنا.
حكيت للدكتور ما حدث فاخذ سماعته الطبية وخرج مسرعا.
اجري الدكتور فحصا عاما وقاس الضغط والسكر من محلول كان لدي والدي وقال لي تعال معي فخرجت معه لمنزله فقال لي (والدك في حالة تحتاج لعناية طبية لأيام، ولكن الأهم ان بقائه في البيت قد يعرض حياته للخطر وأنا سأكتب لك لدخول المستشفى في عنبري وعندما تهدأ الاوضاع تأخذه فورا للمستشفى و لا تخبر احدا بمكانه فقط والدتك لان ذلك خطر عليه).
حضر الينا بعض الاهل والجيران لمواساتنا ومعرفة ما حدث لنا ومن بعضهم علمت أن شخصا بعينه والمؤسف انه من اهلنا هو الذي ذكر للجنود ان والدي شيوعي وأن بعض الهاربين اندسوا في بيته.

مواضيع ذات صلة

على كل.. محمد عبدالقادر يكتب: الامارات.. كيد وتطاول و( بجاحة)

عزة برس

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: رفقا بالجنرال عقار… وهؤلاء !!

عزة برس

عمار العركي يكتب: خبر وتحليل: – مجلس الشيوخ الامريكي ومجلس الشيخ الإماراتي

عزة برس

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: ايها السادة .. انتبهوا !!

عزة برس

أماني الطويل ومعطوب القول!! بقلم: عمر عصام

عزة برس

تقرير: 1140 حالة اختفاء قسري خلال عام من الحرب في السودان

عزة برس

اترك تعليق