المقالات

لنا كلمة .. الاقتصاد بين الاحتراق السياسي ولعنة الموارد ..سعد محمد أحمد ..

ظهرت تعبيري( النظام السياسي المحترق) أو النظام (الإقليمي المحترق) في العديد من الدراسات وعناوين الكتب الصادرة عن الشرق الأوسط ودوله والعالم الثالث عموما، والمقصود بالاحتراق علاقة الخارج مع النخب المحلية، اما من شرح مفهوم السياسي المحترق هو باحث أمريكي في معرض نقده للفصل الذي تقيمه الدراسات الأكاديمية في العلوم السياسية بين دراسة النظام الوطني ودراسة النظام الدولي وراي أن المختصين في كل هذين المجالين يتجاهلون ما يكتبه مختصوا المجال الآخر، وقد اعتبر الأنظمة المحترقة نوعا جديدا من الأنظمة الوطنية محترقة من قبل العالم الخارجي حين يكون اشتعالها مرتبط بفاعلين لا ينتمون إليها، غير المنتمين هؤلاء القدرة على تحديد الافضليات الوطنية ويتولون تنفيذ الأهداف في البلد المعنى وتكتسب قراراتهم قوة وشرعية تعود إلى النظر إليها بوصفها اجبارية وذلك بصرف النظر عن التزام المعنيين بها بطيبة خاطر أو بغير رضي.
بالطبع هي أنظمة ليست جامدة يمكن أن تختفي الواحد منها تبعا للظروف لكنها بالمقابل يمكن أن تكون أشكالا دائمة من الانتظام السياسي ويؤدي نقص الإمكانات في هذه الدول أن كانت اقتصادية أو عسكرية أو ناتجة من ضعف تماسك المجتمع أو كانت ذات طابع استراتيجي الدور الأساسي في إعطاء الشرعية لمشاركة غير المنتمين في تعيين خيارات المجتمع.
لا تختلف خصائص العلاقات السامة بين الدول عن تلك العلاقات السامة بين الأفراد فاجهاد الآخر باستمرار واستغلاله والتدخل في شؤونه وتجاهل احتياجاته وابقاؤه هامدا وعدم احترام حقوقه هي حقائق تم تصنيفها على أنها أفعال سامة تدمر حياة الفرد وفي حالة عدائية ينهي الطرف المسيطر العلاقة فور الانتهاء من الاستفادة منه، يمكن القول إن العلاقة السامة بين دولة وأخرى هي تلك العلاقة التي ينتهي بها الأمر إلى استباحة سيادة الدول بسبب علاقات غير متوازنة حيث هناك دولة قوية تسيطر على دولة ضعيفة بدلا أن تكون علاقة تعاون ومشاركة الأمر الذي ينعكس على التعاون في تحقيق مصالح لكلتا الدولتين ودائما تجد الدول الضعيفة نفسها على حافة الهاوية بسبب نهب ثرواتها أو منعها من الاستفادة منها عبر منظومة فساد تخلقها تنخر اقتصادها وتشوه فضائها المعنوي، عندها يكون الفساد بنية لا عرض ويبقى فساد مشرعن وهو الفساد الذي يحدث في إطار القانون الذي يشرعن الفاسدون أنفسهم من أجل ترسيخ البنية الزبائنية التي تحكم الدولة أو من أجل التغطية على فسادهم أو في أقل تقدير من أجل إتاحة الفرصة لهذا الفساد.
فالسودان من الدول التي تعاني من الاحتراق السياسي والاقتصادي منذ أن كان جزءا من الخلافة العثمانية (الاستعمار التركي) نشط في ظل الخلافة المتاجرة في البشر (تجارة الرقيق والسبي) التي ما زالت آثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تشكل معضلة حقيقية باقية إلى اليوم تلعب دورا في تفكك المجتمع السوداني اثنيا وسياسيا ومناطقيا وهامشا ومركزا فضلا عن سياسة نهب الموارد وفي مقدمتها الذهب، واستمر السودان معرضا للاحتراق من الخارج بعدما أصبح دولة مستقلة ولا يمكن تفسير السياسة بشكل مناسب في مجتمع محترق حتى على المستوى المحلي من دون الأخذ بالاعتبار التأثير الذي يمارسه والدور الذي يقوم به الخارج القادر على التدخل، هكذا أصبح واقع السودان اليوم بعدما أصبحت دولة غير مخصنة ومحترقة من جوانب عدة من المنظومة الإمبريالية العالمية وعملائها من الحلف الإقليمي النفطي والمحاور وشركائها في المنطقة.
بعد ثورة ديسمبر المجيدة التي اذهلت العالم لم يتغير في المشهد شي في طريقة تعاطي النخب الحاكمة مع الخارج بقى عدم إمكان الفصل بين المحلي والإقليمي والدولي في القرارات المتخذة انها فوضى البنيوية بأن ثمة تراتبية تعكس الارتباط الحربائي أو الاستزلامي للدول الضعيفة بالقوة المسيطرة اقتصاديا وعسكريا فيصبح الحديث عن تكافؤ بين الطرفين كمنهجية تحليل غير ذي قيمة.
لم تكن تجربة ثورة السودان التي قادتها واحدثتها قوي الحراك الشعبي للحرية والتغيير والسلام والعدالة مقنعة على الصعيد السياسي والاقتصادي وهي قد اكتسبت شرعية في بداية الأمر باسقاط رأس النظام وخلعه وتحقيق الحرية التي انتزعتها الثوار من براثن دولة الشمولية الا ان الاحتراق التي مارسها دول الإقليم طمعا في ثروات البلاد لنهبها وخوفا من انتقال التحول الديمقراطي إليها وذلك من خلال الجنرالات وقادة المليشيات والحركات الذين جمعهم معها مصالح الارتزاق من قبل وبعض القيادات من التنظيمات الحزبية والسياسية ونخب من المجتمع المدني التي سرقت الثورة في غفلة وباعت مواقفها بالمال النفطي ذلك أسهم في تعطيل مسار الثورة وشرعن الانقلاب.
قام غورباتشوف ويلسن بتحطيم الاتحاد السوفيتي وتحويل روسيا إلى ما يشبه مغارة على بابا يغرف منها الغرب ماشاء بمساعدة الالبغارشين الذين أثروا وسيطروا على البلاد، وبعد نهاية الحرب الباردة كان من المنطق حل حلف( الناتو) لكن المنطق السليم بعيد كل البعد عن عقل البيت الأبيض الذي لا يعرف حدودا للسيطرة والاستغلال ولا يعترف بالعلاقات المتكافئة ولا بالمصالح المشتركة المتوازنة ولتحقيق أهدافها وسعت حلف الناتو باتجاه روسيا فمن ناحية تنظر لروسيا كونها منجما غنيا بالثورات الطبيعية وسوقا استهلاكيا ضخمة كانت تتخذ جميع الاحتياطات لمنعها من استعادت سيادتها على هذه الثروات وبعدما أصبح جليا في ذهن ساسة الكرملين وبعدما فقدت الأمل في علاقات صداقة ومصالح مشتركة وصار توازن العلاقة مع الغرب مطلبا قوميا ملحا لهم فكان الخيار، فالازمة الروسية الأوكرانية في جوهرها صراع على تركيبة النظام الدولي وعلى موقع القوى الكبرى فيه، بالرغم ان صوت الصدام العسكري هو الطاغي ظاهريا فإن صدام المصالح الاقتصادية هو لب الموضوع. الصدام العسكري بين روسيا وأوكرانيا مصلحة أمريكية بامتياز دفعت له الولايات المتحدة ليثبت هيمنتها على العالم من خلال قطع الطريق أمام تفلت روسيا وأوروبا من هذه الهيمنة وبشكل غير مباشر الصين. كل المساعدات التي تقدم لأوكرانيا لا تعني اهتماما بمصالحها فلو كان البيت الأبيض حريصا على أوكرانيا لاستثمر سابقا جزءا بسيطا مما يقدمه الان في تنمية أوكرانيا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ليزدهر.
من خلال هذه الاحتراقات والتقاطعات والتشابكات الدولية للهيمنة كانت زيارة المخلوع البشير لروسيا لطلب الحماية من الغول الأمريكي ومن سقوط نظامه واغراء روسيا بمنحها قاعدة عسكرية على البحر الأحمر (الولايات المتحدة لم ترحم البشير رغم ما قدمه البشير لها من تسليم اسلاميين مطلوبين ومعلومات وبيعهم مقابل رضي أمريكيا وتنفيذ كل الأجندات الغربية والأمريكية حتى انفصال الجنوب ومعلومات استخبارية أشادت بها(Cia) فضلا عن تسليم كارلوس لفرنسا) وهذا كان أول حضور ل (فانغر) لحماية نظام البشير ونهب ثروات البلاد وأمام المد الثوري والحراك الجماهيري لم تسطيع فانغر أو غيرها منع نظام الإنقاذ من السقوط لتتواصل فانغر مع العملاء الجدد في نهب ثروات البلاد الطبيعية ومواردها والدهب لتبلغ حجم المنهوب من الدهب الذي تم تهريبه أكثر من ١٤ مليار دولار أمريكي حسب التقارير لروسيا فقط، تحت حماية سلطات نافذة وعبر رحلات طيران منتظمة تديرها جنرالات وعبر ممر مطارات تديرها الدولة، وبدلا أن ينتشل هذا الدهب السودان من حال الفقر انه لسوء الحظ لم يستخدم هذه الثروة بحكمة حيث أصاب السودان بظاهرة يطلق عليها الاقتصاديون (لعنة الموارد) وفي زيادة بؤس السودان أمنيا واقتصاديا واجتماعيا لأنها خلقت الاحتراق الخارجي وبدأ الفساد وبدأت السرقة من لدن النخبة مما اعطي الإشارة إلى بقية الناس ليستولوا على ما يتمكنون من الذهب ليذهب ريع هذا المورد الطبيعي إلى جيوب الفاسدين.
أعادت الولايات المتحدة بناء أوروبا الغربية واليابان من خلال خطة مارشال التي بدأت في ١٩٤٨ واستمرت ٤ سنوات وهو برنامج التعافي الأوروبي لكن بما يتناسب مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية واستخدمت الخطة لهزيمة اليسار في أوروبا بالترغيب والترهيب والتهديد في حالات أخرى ثم خلقت النفوذ الأمريكي على الاقتصاد العالمي منها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الحرة ومنظمات ومؤسسات المساعدات والتنمية الدولية بضمان فرض رأيها ورغباتها على هذه المؤسسات التي تمثل رأس الرمح في الاحتراق السياسي والاقتصادي للدول، ومن خلالها دخلت الولايات المتحدة إلى البنى العميقة للدول اما بالقوة تارة وتارة أخرى من خلال أشخاص، والأخرى هذه كانت من نصيب السودان وبالتنسيق والتعاون مع الدول الأوروبية من خلال نخب واسخاص وعملاء قامت بتعويمهم ودعمهم وفرضهم على البلاد في لحظة أزمة تشهدها البلاد عبر اتفاقيات ظاهرها مشاريع اقتصادية وقروض ودعم وباطنها فيه انتهاك كامل للسيادة حيث التفريط بالمصالح الاقتصادية وفساد في إدارة الموارد والاقتصاد والتنمية والمستفيد الأول هو أصحاب المشاريع من الغرب الأوربي والأمريكان وليس مصالح الدولة والشعب، فهي المنفذ الأول للنفوذ السام والهيمنة إذ يجعل السودان مرتهن اقتصاديا وسياسيا لخدمة الديون والفوائد التراكمية حيث يتم استنزافه وافقاره وتفكيك المؤسسات فيه وتدمير اقتصاده من خلال زرع منظومة تقودها نخب فاسدة ومع الوقت تتراكم الديون من خلال هندسة سياسات اقتصادية ونقدية تجعل السودان غير منتج بل مستورد فقط ومعتمد بشكل كبير على القروض التي تسلم من سمسرات النخب الفاسدة بالإضافة إلى التهرب الضريبي واعتماد الوكالات الحصرية.
الاحتراق الإقليمي والدولي للسودان سياسيا واقتصاديا فكك الأسس الاقتصادية والاجتماعية ونهب الأصول ودمرت المصانع والمؤسسات الإنتاجية وجرى الاستيلاء على الثروات الطبيعية لتصب مليارات الدولارات في جيوب حديثي النعمة وهرب معظمها للخارج. وارتباط مصالح الأثرياء الجدد مع المحاور الإقليمية والامبريالية شرقا وغربا وصار الاقتصاد ريعيا ومعتمد على تصدير المواد الخام واستيراد كل شي اخر. وقد أدى هذا الي خلل كبير في البنية الاجتماعية والعقيدة القومية اللتين تشكلان عاملين رئيسين في التنمية الذاتية ورعاية المصلحة العامة والمناعة لأي مجتمع في مواجهة الاستهدافات الخارجية. السودان في حاجة إلى إعادة الاعتبار للملكية العامة وزيادة حصتها في القطاعات الاستراتيجية والتحكم في المتعلقة بالموارد الطبيعية مع دور الدولة في توجيه التعليم نحو تأمين القاعدة المعرفية والعلمية والتقنوية لإنتاج ما تحتاج إليه الداخل والسعي الداعم للتطوير المتواصل بحيث تصبح المنتجات السودانية منافسا لمثيلاتها الأجنبية والمقصود بهذا تشكيل قاعدة الأمان الاقتصادية والاجتماعية القادرة أن تصمد في وجه الاستهدافات الخارجية وتجعل تأثيرها محدودا.
مع تداعيات الفترة الانتقالية المتعثرة تنهار العقيدة الثورية للتحول الديمقراطي وتتلاشى العقيدة الحافظة للأمن القومي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للسودان لذلك لابد من عقيدة مميزة للسودان تليق بهذا الشعب وثورته لينعكس ذلك على تحسن العلاقات الاجتماعية بين جماهير الشعب السوداني بانحسار الحروب ونشر السلام وتحقيق العدالة وتوفير حياة كريمة للجميع وتأسيس دولة المواطنة الحرة الديمقراطية ولا بد من تأسيس علاقة مع الدول الأخرى ليس فقط انطلاقا من المصالح الاقتصادية المباشرة إنما أيضا بناء على مبادي الحق والعدل فإذا كانت الإمبريالية المتوحشة وعملائها في الداخل والإقليم تنهب ثروات البلاد من الدهب والمعادن الأخرى والثروة الحيوانية والمنتجات الزراعية دون عائد من ثروات البلاد بسبب الحالة الانتقالية المتداعية والسيولة الأمنية والعمالة بوجهها الفبيح تمارس على السودان أبشع أنواع الاحتراق السياسي والاقتصادي وهذا يجعل من الوقوف في مواجهة هذه السياسات الاستغلالية قاسما مشتركا بين مكونات المجتمع السوداني، كيف يجب على السودان أن يتصرف ويبني علاقته مع دول تحترم خصوصية الدول ولم تتدخل في شؤونها الداخلية ولا تنهب ثرواتها وبما أن تحقيق ذلك يحتاج إلى شركاء يؤمنون بعالم من هذا النوع فالسودان اليوم في أشد الحاجة إلى شركاء يحملون نفس القيم والمبادئ.
……………………………….
الخرطوم30يوليو2022

مواضيع ذات صلة

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: وزير الداخلية والعين القوية !!

عزة برس

خبير اقتصادى: تجار العملة اتجهوا للعمل في مصر وجذب تحويلات المغتربين السودانيين

عزة برس

أجراس فجاج الأرض.. عاصم البلال الطيب يكتب: إبتسام نون النسوة منبرنا للسلام والعدالة

عزة برس

وجه الحقيقية.. السودان بين ديمقراطية العسكر المشروطة و دكتاتورية المدنيين الطامعة. – إبراهيم شقلاوي

عزة برس

بينما يمضي الوقت السيادى في الميدان ( كيفما اتفق).. أمل أبوالقاسم

عزة برس

الهندي عز الدين على منصة “إكس”: ماذا ينتظر عشرات الآلاف من الضباط والجنود المتكدسين في سنار بعد أمر العطا بدخول الجزيرة

عزة برس

اترك تعليق