المقالات

همس الحروف..خطاب البرهان ومأزق أحزاب السودان بقلم : الباقر عبد القيوم علي

لم ينفض سامر أي مجلس من مجالس العيد إلا و أنهم قد قتلوا بحثاً خطاب البرهان الذي فاجأ به الوسط السياسي المتشظي و المهتري ، و الذي أحدث ربكة غير معهودة ، ما زال الخطاب يتصدر حديث المجالس ، فقد نال قداراً كبيراً من الإهتمام عند المهتمين بالشأن السياسي و غير المهتمين به ، فتكسرت عند عتبات سطوره حواجز الصمت عند فئات الشعب المختلفة ، ففتحت به أبواب للنقاش كانت مؤصدة ردحاً من الزمان حتى أصبح تداوله يشكل أولوية عند الأشخاص الذين ليس بينهم سابق معرفة ، فصارت بينهم نقاشات في مواضيع و قصص و تأملات و تفسيرات و قراءات و تحليلات و رؤى كثيرة من واقع هذا الخطاب ، حيث ما زال موضع جدل كثيف تباينت عنده الآراء وردود الأفعال ، فبغض النظر عن حالة عدم التوافق بين أفراد الشعب في ما جاء فيه إلا أنه يعتبر نقطة في غاية الأهمية أنكسرت عندها حالات الجمود التي كانت تكبل المشهد السياسي ، فقد وضع هذا الخطاب القوى السياسية في إمتحان صعب كان بمثابة مأزق عظيم ، فأصبح المشهد برمته كتلك العقبة التي وقف عندها حمار الشيخ و ما زال واقفاً و هو في أشد الحيرة يلتفت يمنة و يساراً بدون هدى .

جوهر هذه الأزمة التي تمر بها البلاد تكمن في إنعدام الثقة بين مكونات شعبه و خصوصاً السياسية منها ، بالاضافة الى ما يصاحب ذلك من نتائج كارثية في الممارسة الحقيقية للعملية السياسية التي تنعدم فيها الرؤية الراشدة و يملأها الإعتقاد الخاطئ في المعطيات المتوفرة في الساحة ، الشيء الذي ساق إلى إنغلاق الأفق ، فالجميع يتحدثون عن التغيير و لكن تنقصهم الأدوات الوطنية التي يديرون بها هذا المشهد المأزوم وفق المعطيات المتوفرة لبلوغ هذا التغيير مع إرتفاع نبرات الجهويات و الإثنيات و تنوع صيغ خطابات الكراهية في مشاهد لا تخلو من حالات الفهلوة السياسية و المناورة ، و لكن يظل المحك الحقيقي هو ملف التعاطي مع القضية الوطنية بفهم يخلو من الحكمة ، فالوطنية تعتبر إمتحان صعب و لكن يتسارع الجميع لخوضه دون إستذكار أو أدنى تركير و لهذا نجد أن نسبة الرسوب فيه عالية جداً و ذلك يرجع لإنشغال الناس عن قضيتهم الأساسية بتوافه الامور مع انعدام تام عند البعض للصدق والوفاء و الأمانة .

في ظل هذه التقاطعات من الأراء و تباين التحليلات و كثير اللقط حول هذه الخطوة الجرئية و غير المتوقعة، و بغض النظر عن مقاصد البرهان المعلنة أو الخفية إن وجدت كما يحمل بعض الناس الظن على تخوين صاحب الخطاب ، فنجد أن الكثيرين منهم قد شرعوا في التقليل من هذه الخطوة ، و حاولوا شيطنتها بخلق خيوط لها أجنحة تحمل أجندة خبيثة ، إلا أننا نجد ان البرهان قد قام بتقديم السبت في إطار سعيه من أجل التوافق و إيجاذ الحلول الجذرية لهذه الأزمة العاصفة ، و عموماً قد وجدت هذه الخطوة إستحساناً وتأيداً إقليمياً و عالمياً ، و رمت بالكرة في ملعب الفرقاء المتشاكسون ، حيث ما زالت قوى الحرية و التغيير يتخبطون في غيهم القديم و يدورون حول أنفسهم و يفلسفون النصوص و يعقدون مفاهيمها بأكثر مما يجب ، و كما نجدهم يتوهمون أن هذه الإجراءات تمت نتيجة لضغط الشارع عبر تلك الإعتصامات القائمة في مدن العاصمة الثلاث ، فلم يعوا الدرس و كما لم يستفيدوا من الأخطاء السابقة التي إغترفوها فأوردت الوطن في جب المهالك ، و سيظلون هكذا إذا لم يتقدموا بخطوة نحو هذا العرض الذي تم تقديمه إليهم في طبق من ذهب ، و لن يستفيدوا ما لم يقوموا بتوحيد كلمتهم و تنظيم صفوفهم ، و يمكن أن يكون هذا الخطاب سبباً في وفاق وطني شامل سيتشكل منه طوق نجاة يمكن أن تعبر به البلاد إلى بر الأمان إذا كانت هنالك إرادة حقيقة لذلك ، و تضافرت الجهود لأجل إنهاء الصراعات القائمة بين المكونات المدنية حول كراسي السلطة ، و خصوصا بعد أن شرع الجيش في العودة الفعلية لثكناته بالإبتعاد عن منصات السياسة و تركها للمدنيين ، فإذا توفرت الإرادة و العزيمة عند المدنيين فعليهم أن يجدوا في تكملة خطوات البرهان التي قام بها ، و يجب أن تعلم قوى الحرية و التغيير أن الشعب كله بكل مكوناته يشكيل قوى الثورة ، و ان هذا الشرف ليس حكراً على أحد منهم دون الآخر ، و إذا كان إعتقاد من يدعى ذلك صادقاً فالإنتخابات على الأبواب و الماء يكذب الغطاس ، فليس من العيب أن يحلم الإنسان بأي سقف يريده ، ولكن الشيء المخجل و المؤسف أن يحتكر الانسان كل الأمر على نفسه و يتمنع الآخرين من ان يحلموا معه و هو ما زال نائما .

و لعل خلاصة إستنتاجات تلك المجالس العيدية رغم ما بها من تباينات متضاربة في الأراء ألا أن أغلب جلسائها تيقنوا أن القوات المسلحة قد قامت بسلك الطريق الصحيح الذي سيسهم في التصحيح و تحريك بركة المياة الراكدة ، و بهذا السلوك أكد البرهان زهده في الحكم و إحتكار الدولة وذلك من واقع إيمانه بعقلية الوفرة التي تتيح الفرص للجميع بدون إستثناء في حكم البلاد ، و الدليل على ذلك التراجع الذي فاجأ به الجميع مؤكداً عدم رغبة الجيش في ما يرمونه به من ظن تجاه حكم البلاد ، و قد برهن الرجل عملياً هذه الخطوة بإعفاء الأعضاء المدنيين بمجلس السيادة الذين كانوا غير مرحب بهم من بعض الأحزاب حيث حاول البعض إستخدم وجودهم كخميرة عكننة في عدم التوافق أدى الى فشل عمل الآلية الثلاثية، و قد قام الرجل بإتخاذ كل الخطوات و التدابير التي تؤكد صدق نيته ، و هو بذلك يكون قد أمتحن الأحزاب في صدق توجهها نحو الحلول السياسية ، مؤكداً بهذه الخطوات عملية إذابة كل العوائق التي كانت تعرقل الحوار و الإتفاق و تشكل محور خلاف بين الجيش و المدنيين ، حيث ظلت بعض الأحزاب تزرع الأوهام بإستنتاجاتها المبنية على تخوين الطرف الآخر ، و قد تبين ذلك من خلال بياناتها التى اعقبت هذا الخطاب ، فيجب عليها بعد هذا تكملة ما تبقى من خطوات ، و إلا ستفوت على نفسها هذه الفرصة الذهبية التي اتت إليها من السماء ، و لهذا يجب على الأحزاب و على رأسها أحزاب قوى الحرية و التغيير الخروج من إيمانهم بعقلية الندرة التي تضيق و لا توسع و تؤمن بأن الفرص محدودة إما أن يأخذوها أو يأخذها غيرهم ، و هذا ما وضح جلياً في فترة الثلاث سنوات السابقة، حيث نجدهم ضيقوا فرص المشاركة حتى على شركائها في التغيير ، و ما يدعم فلسفة هذا الإحتكار هو إدعائها الدائم بملكيتهم للشارع ، إلا ان الشارع ظل يكذب هذا الإدعاء يوماً بعد يوم ، حتى صدموا به في إعتصام الجودة حيث أصبح المعتصمون في يهاجمون الأحزاب علناً عبر اللافتات القماشية التي كتبت عليها عبارات ضدهم ، و قد صاحب ذلك هتافات قوية فتقت آذان الناس وهي تنادي : (يا أحزاب كفاية خراب) .. و لهذا يجب على عموم الأحزاب إعادة ترتيب صفوفها و محاولة كسب الشباب بطرح برامج حقيقية غير تلك التقليدية و الآسنة التي ظلت تنادي بها منذ تأسيسها ، و التي سئم الناس من عدم الربط بين برامجها مع واقع الممارسة الفعلية للعملية السياسية ، حيث يكون الفعل في واد و البرامج في واد آخر ، و هذا ما جعل الناس تنفر منها و خصوصاً الشباب ، لأن جميع الأحزاب أثبتت عدم جدواها ، و لهذا يجب على الأحزاب الإسراع في تسجيل مواقفهم في دفتر المواظبة الوطنية و الترفع عن المكاسب الحزبية الضيقة ، و محاولة تكملة ما بدأه البرهان ، و ذلك بإحترام و قبول الآخر ما لم يكون فاسداً أو شارك في جريمة من قبل أو تمت إدانته أمام المحاكم ، و ان يعلم الجميع بأن الخير وافر و عليهم أن يشاركوا في إصلاح مؤسسات الدولة بترسيخ قيم العدالة و توجيه الإقتصاد في مساره الصحيح و السعي الجاد في إنقاذ المواطن السوداني الذي وصل إلى قاع الفقر و العوز و ليس أمامه أي فرصة للحياة الكريمة ما لم يحدث توافق بين هؤلاء الساسة المتشاكسون ، و كذلك على الشباب ان يتيقنوا أن الإنتقال لا يأتي بالاعتصام أو الهتاف ، فلابد من وجود آلية لهذاالإنتقال ، و هذه الآلية لن تكون ألا عبر أحزاب راشدة ، أو علي هؤلاء الشاب الإلتفاف حول نظرية العالم الأكاديمي و الباحث في الشأن المجتمعي بروفسير إبراهيم بخيث صاحب مبادرة (كيف يحكم السودان من غير أحزاب و من غير عسكر ) ، أو على البرهان إستكمال هذه الفترة حسب ما تتيحه الظروف بتشكيل حكومة تصريف أعمال خفيفة الظل و الدعوة لإنتخابات مبكرة .

مواضيع ذات صلة

تقرير: 1140 حالة اختفاء قسري خلال عام من الحرب في السودان

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: دعوها فانها مأمورة ..!!

عزة برس

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: استفهامات بريئة جدا ؟!

عزة برس

على كل.. محمد عبدالقادر يكتب: دموع مريم… وهروب حمدوك

عزة برس

تمبور السودان عصي على التركيع وصامد امام اعتى العواصف

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: تفسير مفهوم مصطلح (تكنوقراط) انجب مولود مشوه ..!!

عزة برس

اترك تعليق