المقالات

رحلة (نورس) الإعلام الأخيرة ..كلمات عن الراحل عبد المنعم قمر الدين الكتيابي بقلم: بروف هشام عباس زكريا

لا أدري ما هو السبب الذي جعلني قبل شهور من الآن أقرر الاتصال بالأستاذ الإعلامي عبد المنعم قمر الدين الدين إبراهيم المضوي(الكتيابي)،لأدخل معه في حوار طويل عن حياته المهنية ،وكان في النية كتابة مقال ضمن سلسلتي(إعلاميون من نهر النيل) ،وفعلاً ذهبت معه في سياحة طويلة وأخذت منه حصيلة معلومات عن جوانب متعددة من شخصيته والتي كانت محط الإعجاب والتقدير ونحن نخطو خطواتنا في سلم المهنة عبر الإعلام المحلي بإذاعة وتلفزيون عطبرة.
دون مقدمات طويلة رحل الأستاذ عبد المنعم الكتيابي الإنسان المتدثر إبداعاً وتألقاً وحضوراً وزهداً،كانت شيمته التأدب مع الآخرين واحترامهم ،كلما ضاق به فضاء ذهب ليبحث عن فضاء آخر، ظل كطائر (النورس) يسافر من أجل السلام والدفىء ،كان فيه قلق المبدعين الذي لا يستحمل أن يُسجن في أسوار المكاتب والاستوديوهات ظل يحب الحرية والانعتاق والتجوال والتطواف ينثر الأدب والشعر والكلم الجميل.
وُلد الأستاذ عبد المنعم الكتيابي في بلدة الكتياب في29/11/1954،والكتياب ليست قرية بمقاييس القرى وليست مدينة، بل تجمع بين ملمح الريف والحضر، وهكذا كان الراحل عبد المنعم الكتيابي، ريفي متحضر،وحضري متريف،ذكر لي الكتيابي أن شهادة ميلاده كانت عبارة عن ورقة صفراء مكتوية بحبر(التختة) كتبها قريبه محي الدين محمد الفكي الإمام جزلي لوالده في مدينة سنار التي كان يعمل بها يقدم له التهنئة بمناسبة المولود الجديد، ومن وفاء الأستاذ عبد المنعم الكتيابي للكلمات ظل يحتفظ بهذه الورقة حتى رحيله.جاء والد الكتيابي من سنار التي كان يعمل بها في مشروع ود هاشم الزراعي شمال والمخصصة لزراعة القطن وقد سمى مولوده الجديد عبد المنعم تيمناً بعمه المناضل الوطني عبد المنعم حسب الله محمد صالح رحمه الله.
درس الراحل عبد المنعم الكتيابي الخلوة كغيره من أبناء البلدة بخلوة الشيخ عبد الغفور عبد الوهاب القاضي وحفظ بعض الأجزاء من القرآن الكريم، وفي الخلوة أجاد القراءة والكتابة وعندما دخل مدرسة الكتياب الصغرى كان من الطلاب الممتازين،وبعد إكمال الثلاث سنوات سافر مع أسرته إلى سناروهناك دخل مدرسة سنار الجنوبية للبنين لإكمال السنة الرابعة،ثم دخل مدرسة سنار الوسطى ،وفي إمتحانات الوسطى تحصل على المركز الأول في المنطقة حيث يمتحن الطلاب من مناطق سنار والسوكي وكساب وشمبات وكبوش ،كان عدد الممتحنين 460 والمطلوب فقط(40 ) طالباً للدخول للمدرسة الوسطى،كان فخراً لوالد الكتيابي أن يكون إبنه الأول على هذا العدد الكبير وهو القادم لتوه من بلدته الكتياب لإتمام السنة الرابعة.
المرحلة الوسطى والثانوي.
كانت المرحلة الوسطى بمدرسة سنار مهمة جداً للراحل عبد المنعم قمر الدين الكتيابي حيث أصبح يقرض الشعر وحفظ المعلقات السبع وشارك بفاعلية في الجمعيات الأدبية ،وكان ممثلا ً بارعاً في مسرحية المك نمر ولفت إنتباه أسساتذته،بعد ذلك امتحن للمدرسة الثانوية ودخل مدرسة التجارة بالخرطوم وهو تخصص لا يتسق مع ميوله لكنها كانت الفرصة أن ينتقل إلى المجتمع العاصمي ويقرأ التخصص باللغة الانجليزية الأمر الذي جعله يتقنها، كما أن وجود مكتبة ضخمة بالمدرسة ساهم في توسيع دائرة معارفه، أيضاً مجاورة المدرسة لجامعة الخرطوم جعلته يحتك بكثير من الأطر المعرفية والعلمية والأدبية ،فقد كانت داخلياتهم مجاورة لداخليات البركس، ويذكر الأستاذ عبد المنعم الكتيابي أن الأستاذ عبد الباسط سبدرات والأستاذ دلدوم الختم أشقر دائماَ ما يحضران إلى داخلية التجارة وهما كان طالبان في جامعة الخرطوم لإثراء العمل السياسي والثقافي بمدرسة التجارة،في هذه المدرسة إلتقى الكتيابي بطالب صار أعز أصدقائه وهو قادم من جنوب كردفان،يقول عنه الكتيابي إنه فتى مفتول العضلات ،ظريف ،مرح، أنيق،له صوت جميل،ودوماً ما يُحى الجلسات الخاصة بغناء جنوب كردفان الجميل،حتى أنه عدل أغنية لسلاح الإشارة للتسق مع مدرسة التجارة ،فكان ينشد:-
طارت لي شرارة
وحرقتني بي نارا
للطالب الفي التجارة
كان ذلكم الطالب هو الناشط السياسي يوسف كوة أحد الأصدقاء الأعزاء للراحل عبد المنعم الكتيابي وشريك سكنه في مدرسة التجارة بالخرطوم،كانت دار إتحاد جامعة الخرطوم مقصداً للراحل الأستاذ الكتيابي أثناء دراسته بمدرسة التجارة، وكان يساهم في الليالي التي يقدمها الدار ،ولا زلت أذكر قصيدة رواها لي وقد قالها وهو يبلغ من العمر (17) عاماً عندما إلتقته طالبة في جامعة الخرطوم بدار الاتحاد:-
لئن كان الوصال إليك ناراً فليت النار تأتيني بغرس
فيا ذات الجمال كفى عذاباً فقبلك قد جنت ليلى بقيس
فإنك في مسام نظام عقلي وإنك أنت في أعماق نفسي
وقيمة حسنك الخلاب يسوي بما في الكون من جن وإنس
هويت الدار لما جئت فيها وكنت أظنها مأتات نحس
وتبتسمين لى ورايت نفسي تُكذب حين تبتسمين نفسي
أدار الاتحاد ملكت قلبي لأن الحسن في ناديك يمسي
هكذا نمت العبقرية الشعرية مع أستاذنا الراحل عبد المنعم الكتيابي منذ الصغر وقد مكنته دراسته بمدرسة التجارة الثانوية من هذا الاحتكاك بعمالقة في الفن والأدب والشعر فكانت المدخل الموضوعي له أن يكون إعلامياً متميزاً.
في السنة الثانية بمدرسة التجارة الثانوية توفي والد الأستاذ عبد المنعم وهو في مقتبل العمر وتركه وشقيقاته في مرحلة يحتاجون فيها للأب لذا تفتحت الأبوية الباكرة عند الراحل عبد المنعم ،وقبل فوراً عقب تخرجه في مدرسة التجارة العرض الذي قدمه له رئيس مجلس مشروع ود هاشم الزراعي الأستاذ المرحوم محمد على حميدة لأن يعمل محاسباً بالمشروع تكريماً لوالده الذي عمل طوال حياته معهم ،لكن قلب عبد المنعم الطيب لم يستطع الابتعاد عن شقيقاته فعمل عاماً واحداً في ودهاشم ثم عاد للكتياب حتى دون استئذان، وترك العمل ليكون بجانب أسرته في الكتياب واستثمر أرضاً زراعية تخص والدته وقام ببستنتها وأصبح مزارعاً في بلدته.
الدخول للإعلام 1972
شاءت الأقدار أن يذهب الأستاذ عبد المنعم الكتيابي ضمن وفد من بلدته إلى الدامر لوداع محافط الدامر المرحوم عوض سعد واستقبال المحافظ الجديد المرحوم حسين محمد أحمد شرفي في عودته الثانية للمحافظة، وطلب منه الوفد أن يتحث نيابة عنه، فقال كلاماً عميقاً مستخدماً مفردات رشيقة لفتت الحضور إليه،وبعد عوته في اليوم الثاني إلى الكتياب جاءه من يحدثه أن مكتب المحافظ قد اتصل بالهاتف الوحيد بالمشروع الزراعي بالكتياب وطلب منه الحضور غداً لمكتب المحافظ،يقول الكتيابي إن الرهبة قد تملكته لذا طلب من قريبه (حسب الله نابه) مرافقته إلى الدامر وحلُوا ضيوفاً عند المرحوم أحمد عبد الله حسن ورافقهما إلى المحافظ مساءً بمنزله،وفعلاً تم اللقاء ونقل شرفي إعجابه الشديد بالكتيابي وكتب له خطاباً بخط اليد إلى الأستاذ أحمد الزبير مدير الثقافة والإعلام بعطبرة وهو الإعلامي المشهور صاحب برنامج أشكال والوان بالإذاعة السودانية والذي جاء مديراً للثقافة والإعلام خلفاً للأستاذ الإعلامي إدريس البنا وكتب في الخطاب( يتم تعيين الأستاذ عبد المنعم قمر الدين إبراهيم بمكتب الثقافة والإعلام بمرتب وقدره 22 جنيه خصماً على وفورات الميزانية) وكان ذلكم هو العام الأول في ميدان الإعلام.
في مكتب الثقافة والإعلام بالمديرية الشمالية ومقره عطبرة تفتحت العبقرية الإعلامية للراحل الكتيابي على يد عظماء هم الأساتذة أحمد الزيبر وعبد الرحمن جلود وهاشم علي مالك ومحمد محجوب رحمهم الله، هذا بجانب الأستاذ مأمون إبراهيم الذي كان يقدم رسالة الإقليم الشمالي كل أسبوع، ومأمون إبراهيم رجل قمة الإبداع كان من حسن حظي أن عملت معه نهاية التسعينيات فوجدت رجلاً يحفظ القرآن الكريم والانجيل ويعرف في الطب والبيطرة والإرصاد واللغة العربية والانجليزية، فقد كان يعد لي و الزميلة إعتماد خضر عبده برنامج منوعات على الهواء أمسية كل خميس،كنت منبهر جداً بقلمه ومعلوماته .أصبح الراحل عبد المنعم الكتيابي يقدم رسالة الإقليم الشمالي كل أسبوع خلفاً للأستاذ مأمون إبراهيم فتجول في أنحاء الإقليم من حلفا شمالاً وحتى حجر العسل جنوباً، وسجل من دنقلا للفنانين محمد إسماعيل وتلميذه زكي عبد الكريم ،ومن (أرتدي) سجل للفنان أحمدون،ومن كبوشية سجل للفنان عبد الله الماحي وسليمان اللمونجي والجود وحميراء، ومن شندي سجل للفنان حسين على جبريل الشهير بحسين شندي وغيرهم،أصبح عبد المنعم الكتيابي في تلكم الفترة نجماً إعلامياً كبيراَ على مستوى السودان حيث إن رسالة المديرية الشمالية عبر الإذاعة القومية مسموعة في كل السودان، ولهذا البروز عينه المحافظ المرحوم حسين محمح أحمد شرفي مستشاراً إعلامياً له بجانب مسؤليته عن صياغة الخطابات الجماهيرية التي كان يلقيها شرفي في التجمعات .
الكتيابي من المحلية إلى القومية
كان الأستاذ محمد خوجلي صالحين من المعجبين بأداء وصوت الكتيابي لذا كتب خطاباً في نهاية السبعينيات إلى الأستاذ أحمد الزبير يطلب فيه سفر الأستاذ الكتيابي إلى أمد رمان وتفرغه كمذيع في الإذاعة السودانية ،وبالفعل إنخرط الكتيابي مذيعاً جديداً ووجد معه من المذيعين الجدد والذين يعتبرون دفعته في الإذاعة عوض إبراهيم عوض،هاشم ميرغني،عبد العظيم عوض،محمد الفاتح السمؤال،حسن سليمان،وبعد ثلاثة أيام من وصوله شارك قراءة نشرة الثالثة مع الأستاذ عمر الجزلي.للم يستطع الريفي مجاراة حياة المدينة فعاد بعد عام ونصف إلى عطبرة مرة أخرى إعلامياً في مكتب الثقافة والإعلام مقدماً لرسالة المديرية الشمالية.
صاحب فكرة إنشاء إذاعة عطبرة.
للتاريخ فإن الراحل الأستاذ عبد المنعم إبراهيم الكتيابي هو صاحب إنشاء إذاعة عطبرة ،فعندما حضر وفد هندسي لإنشاء برج في المقرن لتقوية الإرسال للإذاعة السودانية جاء وزير الثقافة والإعلام في الفترة الانتقالية عقب مايو الأستاذ محمد بشير حامد لتفقد البرج وإجتمع بالإعلاميين بمكتب الثقافة والإعلام بحضور الأستاذ علي محمد علي مدير الثقافة والإعلام وهنا تحدث الأستاذ الكتيابي في الاجتماع عن إمكانية إنشاء إذاعة وتحمس الوزير والإجتماع لذلك وكانت إذاعة عطبرة،ويقول الأستاذ عبد المنعم الكتيابي إنه للتاريخ لم تات بعثات من أم درمان للإذاعة وقت التاسيس، فقط كان هناك المهندس (مبارك تبارك) لكن الإذاعة نشأت بفضل الإعلاميين بمكتب الثقافة والإعلام، ثم لاحقاً جاء الأساتذة عبد المنطلب الفحل وعمر عثمان وعوض إبراهيم عوض وكمال عبادي وشمس الدين عيسى وهاشم ميرغني وغيرهم بجانب شباب جدد مثل الأستاذة ماجدة إبراهيم الدابي،طبعاً قبل ذلك كان هناك اسهامات للأستاذ الكتيابي في تلفزيون عطبرة الذي بدأ في منتصف السبعينيات حيث كان مكتب الإعلام يقوم بتحرير الأخبار والقيام بالجانب البرامجي، وغير قراءة نشرات الأخبار استطاع الراحل عبد المنعم الكتيابي تقديم (65) حلقة من برنامج أرض التاريخ والذي يحكى عن الأماكن في الإقليم الشمالى، وأتمنى أن تكون هذه الحلقات محفوظة في مكتبة تلفزيون عطبرة ،كما قدم لإذاعة عطبرة غير قراءة نشرات الأخبار( 100) حلقة من برنامج حداة الأرواح والذي كان يُبث صباحاً وياليت إذاعة عطبرة تُعييد بث هذه الحلقات .
العودة للتلفزيون القومي والخرطوم
بعد عمل طويل في الإعلام المحلى عاد الأستاذ لكتيابي للعمل مذيعاً ومحرراً للأخبار بالقناة القومية وكان يقدم أخبار التاسعة مع الأستاذ يسرية محمد الحسن وظل الناس يسألون عن هذا الحضور الجديد في الشاشة وقد قرأت عدة لقاءات صحفية أجريت معه. ثم تعاون مع عدة صحف في كتابة المقالات ونقل عمله إلى وزارة الإعلام الاتحادية وظل حتى الرحيل يتردد ما بين الخرطوم والدامر عشقه الأول وأصبح نشطاً في مواقع التواصل الاجتماعي وأنشأ مجموعة شهيرة في الواتساب بعنوان (البستان) تهتم بالأدب والشعر والمعرفة .
إن شخصية الراحل عبد المنعم الكتيابي يمكن النظر إليها من عدة نوافذ،فهو إعلامي قادته الموهبة إلى منصات الإعلام ،وظل وفياً للمهنة والمايكروفون والقلم،ولم يمر علىً إعلامياً مثل الكتيابي لديه مقدرة على الارتجال،كما أن الكتيابي عاش زاهداً فما كان يهتم بالمناصب الإدارية بقدر اهتمامه بوجوده وسط بيئة العمل منتجاً حقيقياً للمحتوى الإعلامي،أيضاً علاقته المميزة وإحترامه لزملائه والتعبير عن رأيه بلطف دون أن يجرح أحد جعلت منه إنساناً لطيفاً،كما ظل الكتيابي مرتبطاً بالمكان فما غادر نهر النيل إلا عاد لها وظلت الدامر وعطبرة عشقه العميق.
رحم الله نورس الإعلام صاحب القلب الأبيض الذي رحل دونما وداع هاجر اليوم إلى الرحيم بعد أن ظل يسافر من مرافىء لمرافىء باحثاً عن الجمال والدفىء ،فنسأل المولى الرحمة والمغفرة للصديق العزيز والأستاذ الفاضل عبد المنعم إبراهيم المضوي.إنا لله وإنا إليه راجعون.

مواضيع ذات صلة

الهندي عز الدين على منصة “إكس”: ماذا ينتظر عشرات الآلاف من الضباط والجنود المتكدسين في سنار بعد أمر العطا بدخول الجزيرة

عزة برس

وجع الكلم د حسن التجاني الوطن ليس حكوماتھ..يا ناس..!!

عزة برس

زوايا المرايا.. د.زينب السعيد تكتب: ابني مات مرتين

عزة برس

نحن عزنا جيش بقلم: شادية عطا المنان

عزة برس

عمار العركى يكتب : محمد ديبي بين مطرقة الامارات وسندان فرنسا

عزة برس

أجراس فجاج الأرض.. عاصم البلال الطيب يكتب: مؤتمر اللاجئين وتبرئة عنان.. تقديم السبت احتسابا للأحد

عزة برس

اترك تعليق