الأخبار

حيدر ..قلب الأسد بقلم : ‎إبراهيم أحمد الحسن


‎توثقت معرفتي به وتوطدت عراها متجاوزة روابط الدم الي آفاق ارحب في فضاء الانسانية الرحيب . التقينا في ثمانينات القرن الماضي، ولم نزل طلاباً للدرس وللعلم ، علي سطح بص يحمل المسافرين والبضائع والخطابات والاشواق والامنيات الطيبة والامان مسافراً عبر الصحراء الي افياء بعيدة هي بحساب المسافات “قريب وبعيد حضور وزوال”، على ظهر بص اسمه (سفريات الامان) وكان حيدر مساعداً لسائق البص وكان يقطع قوز ابوضلوع والصحراء اربعة مرات في الاسبوع (ذهاب وإياب) وان شئت ان تبدل الاياب ب غياب كما اعتاد المسافرون علي تسمية رحلاتهم عبر الصحراء، ان اردته لك ذلك، كان يحمل صاجة من الحديد الصلب يضعها بفنيات عالية تحت العجل الخلفي للبص المتأرجح تحت وطأة رمال الصحراء المتحركة ، يتأوه، يئن ويرجحن، يتحشرج صوت ماكينتة علواً وهبوطاً, ثم ينتظم والسائق الماهر يتلاعب بناقل السرعات علوا وهبوطا، يبطئ الي السرعة الاقل فينتزع عجلات البص من براثن الرمل او يشغل ترس القوة يزيادة الدفع في كسر من الثانية او يرمي ناقل الحركة (خالي كلتش) اي دون ان يضغط علي دواسة الكلتش وهو فن لا يجيده الا فنان وسائق ماهر قال عنه عبدالله محمد خير “السواقة انتِ مكنترا / و جايب فيها كم دكترة / التروس ليك هان عاسرا / واي سواق غيرك كان كسرا ” فقيادة البصات في تلك الوهاد يحتاج خبرة وحنكة وعلم وكم شهادة دكتوراة .
‎صديقنا حيدر يخرج من تحت عجلات البص برشاقة لاعب جمباز عالمي حاملاً صاجة الحديد الثقيلة ليجرى في خفة تحت ثقل الصاجة ينتزع ساقيه بين ذرات الرمال وقد غاص القدم مختفياً الي منتصف الساق داخل التلال الصغيرة التي صنعها البص علي جانبي الطريق، كان صاحبنا يجري، ويقفز، يستلقي علي بطنه، يضجع يتدحرج ثم يزحف، يجثو علي ركبتيه، يعتدل ثم يغرز رجله الشمال داخل المجرى الذي حفره البص بزاوية نصف قائمة, يرتكز عليها يرمي الصاجة تحت العجل الخلفى للبص، يسحب رجله الشمال سريعا حتى لا يطأها البص، يجثو بها مع اليمنى في خط مستقيم ثم يقفز الي الاعلى لحظة عبور البص فوق الصاجة, ينحني ينتزعها من بحر الرمال يضعها علي كتفه او يحملها علي ظهره، ينهض، يستقيم واقفاً، يسير بها ثم يهرول، يعدو، ويركض، يرتفع شعره المنسدل الي كتفيه وقد عصبه الي جبهته وترك باقيه حرا يعلو ويهبط متابعًا انفاس البص حركاته وسكناته في صراعه مع الرمال، فخروج البص من بحر الرمال وتلالها المتحركة دون ان يتعطل او يغوص فيها لهو انتصار وشهادة له ولسائق البص وللبص ذاته وللشاعر عبدالله محمد خير حين قال “السواقة قراية ودراسة / ما ساكت جربندية و عواسة / رزانة و حكمة و فراسة / دي ود ابزيد كان اساسا ”
‎ثم قال “القيادة محكم نظاما / ذوق وأدب واستقامة”
‎ثم قال : ” توكل وبالحاميه نش / دقائق في القبولاب خش/ لقى الخلاء ماخدلو رشة / كسح بالنور والمنشة ” كان حيدر كما الجندي بل هو جندي اتخذ وطنه البص فقد كان يمثل له الواجب،الشرف والوطن. كنت اعشق السفر بالبص وجربته في كل احوال الصحراء ، جفاف وقسوة, صيف وسموم ، امطار مجنونة، شتاء وزمهرير، رياح هبوب واعاصير تتناوب جميعهاً نكباء، حصباء، متناوحة، نافجة وجافلة وتناوش بص يتأرج حتي يكاد يلثم جانبي الطريق وهو يتلوى بين الكثبان. قابلت اناس اشداء، شجعان وكرماء، خبراء بالصحراء، بالطريق واحواله، بالطقس وتقلباته وبالمسافرين وسلوكهم، و”بالمحطات الحنينة القصرت مشوار سفرنا”وفوق ذلك كانوا لطفاء، نبلاء وصبورين. في تلكم الاجواء قابلت (قلب الاسد) حيدر بلطفه وصبره وحنكة تعامله وانسانيته الباذخة وتعليقاته الساخرة.
‎لم يلبث حيدر حتى حمل خبرته النادرة وانسانيته وهاجر لما ضاقت البلاد باهلها، حمل خبرته واشواقه، حفنة من تراب الصحراء وطموح ارتاد لاجله الاهوال وهاجر في رحلة (ذهاب) طويلة، واياب غير معروف مداه، تطاولت سنين الغربة الي ان وصلت منتهاها بعودته بما يكفي ليشيد مأوى لاولاده ويسد رمق العيش والتداوي. ولان فيّ الاخير دائما فتق يتسع علي الراتق، ولان كشكول الامراض يبدأ بالعارض والمزمن والعابر، كان له من كل بستان من الكشكول نصيب .وعندما بخلت عليه بلاد الصحراء والسموم والكتاحات والهبوب والدعاش والنسيم العليل والهمريب بجرعة دواء لملم اوجاعه وبضع مدخرات ويمم صوب الحنينة مصر. طبعت صغرى بناته علي خده الايمن قبلة، وانتظرت عند الباب اوان عودته ليدير لها خده الايسر لتطبع عليه قبلة العود الحميد.
‎ حيدر باذنه تعالى حتماً سيعود، بنواياه الطيبة التي تفرش الطريق الي الشفاء بالورود سيعود، بدعوات كل من عرفه سيكتمل شفائه ويعود، من اجل أبنائه زغب الحواصل وبنته الصغرى التي تنتظرعند الباب سيعود محملا بالهدايا والعافية والشفاء ومترعاً بنواياه الطيبة وورعه الشفيف

مواضيع ذات صلة

مبادرة الاشقاء باسوان تضع خطتها للمرحلة المقبلة

عزة برس

وزير الزراعة بالخرطوم يكشف أسباب توقف بعض المشاريع الزراعية الحكومية

عزة برس

الفريق جابر : الحرب مخطط أكبر ممن خططوا له وتدخلات خارجية و احزاب تسببت في الحرب

عزة برس

الميرغني في نهر النيل في أول زيارة بعد الحرب

عزة برس

الفريق جابر : القوات المسلحة لن تكون طرفا في اتفاق مع السياسين وهي الجيش الوحيد ولن تقبل رديف

عزة برس

“البرهان” يطلع على دور هيئة الموانئ البحرية في دعم الاقتصاد الوطني

عزة برس

اترك تعليق