المقالات

مبادرة د. حمدوك.. رَمْيٌ لحجرٍ كبير في بركة آسنة.. بقلم : د. علي مالك عثمان 

(١)
مبادرة د. عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء السوداني، التي أطلقها اليوم، والتي أسماها (الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال – الطريق إلى الأمام)، هي في تقديري التشخيص الممتاز للأزمة، وحلولها التي رسمتها هي الحلول الناجعة والوحيدة القادرة على العبور بالسودان؛ وحفظ ما تبقى منه كوطن وككيان.

(٢)
د. حمدوك في مبادرته هذه لكأني به يخاطب شعب السودان، ويقول له إنَّ ما يستطيع أن يفعله وحده من سياسات، مستفيداً من خبرته في مجال العمل الدولي، كرفْعِ إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإعادة البلاد للأسرة الدولية، والتوصل لإتفاقيات سلام مع حركات الكفاح المسلح، ووضع اللبنات الأولى لعملية الإصلاح الإقتصادي، وغيرها من إنجازات، قد قام بها وأدَّاها، ولكن ما تبقىٰ من مشاكل ذات طبيعة داخلية، مثل إعادة بناء مؤسسات الدولة، وبناء جيش وطني واحد، وتفكيك دولة التمكين، وتحقيق العدالة، وإكمال هياكل الفترة الانتقالية، …إلخ، لَهِيَ مشاكل وعقبات لا يمكن أن ينهض بها شخصٌ واحدٌ؛ مهما أُوتيَ من الحصافة والكاريزما السياسية، لأنها تحتاج لإجماع توافق داخلي بين الفرقاء السياسيين، وأن الدول التي تكون أوضاعها كأوضاع بلدنا حالياً لا يمكن أن تنهض إلا بوحدة أبناءها واجتماعهم على مشروع وطني واحد.
وبالتالي فإن د. حمدوك يتوجه بمبادرته هذه لكل أفراد الشعب السوداني، ويخاطب من خلالها أفراده، وتجمعاته، وأحزابه، وقواه الحيّة، أنْ هَـلُمُّوا إلى دعمي والوقوف بجانبي، لتنفيذ برنامج سياسي عاجل، ينتشل البلاد من وهدتها الحالية، ويَعْـبُر بها هذه الفترة الحرجة والدقيقة من تاريخها، ويضع الأسس واللبنات لمشروع وطني جامع يعالج كل أزمات البلاد الحالية والموروثة منذ الاستقلال.

(٣)
المبادرة عدَّدَت التحديات التي يواجهها السودان حالياً، وأجملتها في ملفات الوضع الاقتصادي الحرج، والترتيبات الأمنية، والعدالة، والسيادة الوطنية، والعلاقات الخارجية، واستكمال السلام، وتعدد مراكز القرار وتضاربها، والوضع الأمني، والتوترات الاجتماعية، والفساد، وتعثر إزالة التمكين وبناء المؤسسات. ويأتي كل ذلك في ظل الانقسامات داخل الكتلة الانتقالية، وعدم وجود مركز موحد للقرار داخلها، وغياب الأولويات والتصور المشترك للانتقال.

(٤)
المبادرة، كما أحسنت في تشخيص الداء، أحسنت أيضاً – في ظني – في وضع روشتة العلاج، فقد اقترحت حلولاً لكل المشاكل والتحديات التي تعترض مسيرة البلاد والفترة الانتقالية حالياً، لكن في ظني أهم ما جاء في هذه المبادرة من دعوات للإصلاح هو دعوتها لإصلاح القطاع الأمني والعسكري، وذلك لأنها قضية مفتاحية لكل قضايا الانتقال، وبدونها لا يمكن حل قضايا الاقتصاد، والعدالة الانتقالية، وبناء مؤسسات الدولة المدنية. ويكون ذلك من خلال دمج كل القوات الموجودة حالياً في جيشٍ وطنيٍّ واحد، ذو عقيدة قتالية وطنية واحدة، و يأتمر بأوامر جهة تنفيذية واحدة. لأنه بغير تحقيق هذه الغاية، صدقوني، لا يمكن إصلاح أيّ شيء آخر في البلد. وهذا في ظني يتطلب من الجميع، خصوصاً عسكر القوات المسلحة و جنرالات الجيوش الموجودة حالياً، النظر إلى أن هذا الكيان المُسمىٰ حالياً بالسودان، هو في مفترق طرق حقيقي، إما أن يتم الحفاظ على ما تبقىٰ منه، ويستكمل مسيرته كوطن واحد موحد، يحفظ مستقبل العيش المشترك والكريم لجميع أبنائه، أو يتقسَّم لكانتونات متحاربة فيما بينها، ولا يملك أيَّاً منها مقومات وأسس قيام الدول. وهذا يعني أن يتواضع جنرالات هذه المليشيات، ويرتضوا حل مليشياتهم ودمجها في الجيش الوطني الواحد، عن قناعة وطيب نفس. وهذا يستلزم في اعتقادي من الشعب السوداني، تطمين هؤلاء الجنرالات، وإقناعهم أن حل مليشياتهم ودمجها في الجيش الوطني هو مقابل عدالة انتقالية، تضمن إسقاط كل الجرائم التي ارتكبوها عنهم، ولكن فقط بعد الاعتراف بها، وطلب الصفح من هذا الشعب. وذلك لأن أكثر ما يُصعِّـب عملية الدمج هذه – في تقديري – هي خوف هؤلاء الجنرالات على مصيرهم، حال تخلَّـوْا عن سلاحهم الذي يحميهم حالياً.
أعرف أن كثيرين سيرفضون هذا الطرح، على إعتبار أن جرائم هؤلاء كانت من البشاعة والهوْل للدرجة التي يصْعُب معها أي تسويات تنتهي بالصفحٍ والغفران عنهم من قبل ذوي الضحايا. كما أن دماء الضحايا الطاهرة التي سألت على أيدي هؤلاء القتلة، لا تملك هذه الحكومة ولا غيرها حق العفو والتنازل عنها. كل هذا صحيح، ولكن على هؤلاء أن يتذكروا أن المسألة الآن باتت بين أن يبقىٰ السودان أو يتلاشى، وان القضية الآن هي قضية وطن يجب أن يسعىٰ الجميع في المحافظة عليه، ويجب تغليب العقل على الرغبة في الثأر والانتقام. كما أن عليهم أن يتذكروا أيضاً أن الإصرار على الانتقام وتعليق المشانق في هذه الظروف لن يؤدي إلا إلى ضياع الوطن، وذلك لأن تحقيق العدالة، التي تقتص من الجناة دون تأثير على نسيج وكيان الوطن، تتطلب وجود أجهزة عدلية نزيهة وقومية، وتُمثِّـل كل أبناء الوطن الواحد، ويثق في أحكامها الجميع. وهذه الأجهزة العدلية، بهذه المواصفات، غير متوفرة حالياً، والمتوفِّر منها حالياً ستشكل أحكامه التي يصدرها إشكالية كبيرة، لأن هناك جهات لن تعترف بأحكامها، حتى ولو كانت صحيحة وعادلة، لأن التشكيك فيها ورفضها، بدواعي الجهوية والقبلية، سيكون سيفاً حاضراً، سيُشهَر في وجه الوطن وأمنه واستقراره.

(٥)
كل الحلول التي أوردتها المبادرة للمشكلات الأخرىٰ، نؤيدها ونبصم عليها بأصابعنا العشرة، ولا نريد سردها لأن المقام لا يتسع.

(٦)
كثيرون نظروا لمبادرة د. حمدوك التي أطلقها اليوم على أنها إبراء لذمته، وإعذاراً لنفسه أمام الشعب السوداني الذي حمَّله هذه المهمة التي تنوء عن حملها الجبال. وأنَّ هذه المبادرة قد تكون تمهيداً لإستقالة قادمة، قد لا تتأخر إذا وصلت المبادرة إلى طريقٍ مسدود، ولم تجد آذناً صاغية، ودعماً لصاحبها. لكني لا أراها كذلك، وذلك لأن د. حمدوك يعلم، أكثر من غيره، أن أي إستقالة له في هذا الظرف تعني أن البلاد ستدخل في المجهول، وأنه يصْعُب – إن لم يستحل – الإجماع على بديل مدني يخْلُفُه وسط القوى السياسية المدنية الحالية، وهي التي عجزت حتى عن الاتفاق على تقديم مرشحين من داخل كياناتها لتشكيل المجلس التشريعي. وبالتالي البديل عن د. حمدوك هو عودة العسكر مرة أخرى، وهذا يعني قتل الثورة، وضياع التضحيات التي قدمها هذا الشعب السوداني العظيم. لذا لا أرىٰ هذه المبادرة مُقدِّمة لإستقالة قادمة، ولكنها في ظني محاولة من د. حمدوك لتكوين حاضنة سياسية مدنية قوية، تكون بديلة ل “ق.ح.ت”، التي شاخت وفقدت الكثير من قوتها وتماسكها، بفعل الانشقاقات الكثيرة التي أصابت جسدها. لذا أعتقد أن د. حمدوك يُـقَـدِّر أن عمله في مجال السياسة الخارجية قد شارف على الانتهاء، وأن المرحلة القادمة تتطلب منه التَّوَجُّه نحو الداخل ومواجهة تحدياته بشجاعة وحسم، وهذا سيتطلب منه بدون شك الدخول في مواجهة جهات داخلية يجب أن يتسلَّح لها جيداً. لكنه يُقدِّر الآن أنه يقف وحيداً في الساحة، ولا يستطيع بوضعه الحالي خوْض أي معركة في مواجهة تلك الجهات والقوىٰ. لذا سيسعى في المرحلة القادمة، في تقديري، لخلق هذه الحاضنة السياسية والشعبية، لكي تُعِينَه وتسنده فيما هو مقبل عليه من مواجهات.. والله أعلم.

مواضيع ذات صلة

يا مافي السجن مظاليم بقلم: عميد شرطة فتح الرحمن محمد التوم- الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة

عزة برس

كلام سياسة.. الصافي سالم أحمد يكتب: وزير الخارجية : ملفات في الانتظار

عزة برس

أجراس فجاج الأرض.. عاصم البلال الطيب يكتب: يا نجوى كلنا فى الحكمة شرق

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: إعدام وزير ..!!

عزة برس

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: من يستحى لهولاء من؟

عزة برس

هناك فرق – منى أبو زيد تكتب: من يجرؤ على الكلام..!

عزة برس

اترك تعليق