المقالات

البي بي سي تصنع ركشة.. بقلم إبراهيم أحمد الحسن

 

 

عندما حكى لي بسخريته المعهودة عن قريبته رقية التي جاءت من قرية بعيدة قبل ربع قرن من الزمان و عندها كان الاختراع الاسطوري المسمى بالركشة قد دخل السودان للتو .. و ذلك قبل ان يطاردها رجل المرور الاشهر عادل سيدأحمد و يحاربها في طورها المائي والذي عندما اعيته منها حيلة تركها و شأنها تجوس بين ديار العاصمة المثلثة الثلاث خرطومها البحري و خرطومها العموم ، و امدرمانها ، محبوسة بين جدران مدنها التي تجري من تحتها الانهار ، دون ان يسمح لها بعبور الجسور ، لدرجة صار معها عبور النهر الي الضفة الأخرى امنية عزيزة تبعد بها النجعة عن التحقق حتى ان احدهم كتب على ركشته بحرقة وشوق ( نفسي أقطع الكوبري ) .. المهم نظرت رقية – و العهدة علي الراوي – من نافذة البص الذي علاً سطحه الغبار ثم تدلى على سحنات الركاب و سيمائهم ، و وجوههم من اثر عبور الصحراء الي العاصمة .. نظرت ووقع بصرها علي هذا الكائن الهلامي الذي يمشي علي ثلاث ، ألجمت الدهشة لسانها و هي التي تعودت علي كائنات حية و جمادات تمشى علي اثنين أو اربع .. فالدجاجة الصغيرة الحمراء فمنذ ان كانت فروجاً صغيراً في كتب المطالعة الي ان اتخذتها الاسرة من ضمن طاقم الطيور الداجنة التي تربيها في المنزل فهى تمشي علي رجلين اثنتين و لم تنبت لها رجل ثالثة في اي من مراحل تطورها مذ ان كانت دجاجة بيت داجنة ، ثم دجاجة بيطيرية مكتنزة من عينة دجاج رود آيلاند الأحمر او دجاج هامبورغ او الدجاج هاي لاين البياض ، و ينطبق الحال علي جماد العجلة ( البسكليتة) التي اهداها الاب المغترب لابنه بمناسبة نجاحه في امتحانات النقل في المدرسة و هي تراها أبداً تمشى علي اثنتين و عندما حاول الابن الشقى ان يمشي بها على واحدة دفع الثمن باهظاً ، وجه تحيط به الضمادات ورجل واحدة يلفها الالم والجبص ، و عند التعافي اصبح هو ذاته يمشى علي اربع ، عكازتين و رجلين . و الدهشة تلجم لسانها و هي ما تزال تنظر من نافذة البص ، تحاول ان تتذكر ما رأته في حياتها من كائنات ، فالحمار الذي يمشي بينهم منذ عشرات السنين في الحقل و في البيدر و في المدينة و في العاصمة المثلثة فهو ما زال حماراً يمشي علي اربع و سيظل حماراً بذات الاربع لا يتطور . و الحال ينطبق علي السيارة من الجمادات التي تمشي علي اربع ، السيدة التي تنظر من نافذة ألبص اعياها الامر و هي تحاول ان تتذكر ما اذا كانت قد رأت كائناً يمشى علي ثلاث ، حتى لعبات الاطفال التي هي من صنع ايديهم بمهارة فائقة – و منهم ابنها عثمان – وذلك بتدوير المخلفات الصناعية ومن الاسلاك الشائكة التي يفتعلونها من اسوار مرافق الدولة و ينتزعون شوكتها ثم يجعلونها لعبات تمشي علي الارض او حتى تلك التي يشترونها من متاجر المدينة كلها تمشي علي اثنتان و اربع و ليس منها من يمشي مكباً علي وجهه بثلاث !!!
ما زالت المرأة تبحلق في الكائنات ذوات الثلاث ارجل و هي تعدو في كل اتجاه ، وفي لحظةٍ فارقة مرت الي جوار البص واحدة عتيقة بصوت اجش و سائق رث الهندام ، اشارت اليها بيدها اليمنى تكاد تخلعها من كتفها ، ثم و اخرجت نصفها من نافذة البص لتصيح في سائق الركشة ( متل دي يعلم بي الله عثمان ولدي الا يعدلها ) و الترجمة علي الشريط بتصرف تقول ( هذه التي أراها امامي والله وبالله وتالله يستطع عثمان ولدي ان يصنع مثلها بسهولة ) .
ولم اورد هذا المدخل الطويل الا لادلل علي استسهالنا في السودان للامور ، بلا استثناء فالذي يفتي في الطب و علم التداوي ربما يكون فاقد تربوي اعيته حيلة مغالبة ( طعم الدروس ) ف دخل السوق يبيع و يشترى و يحلف بالطلاق ثم يفتي في الطب و يصرف وصفات دوائية دون ان يطرف له جفن ثم يقول لك : ” اسأل مجرب و لا تسأل طبيب” او قد يكون موظفاً ياقته بيضاء يجادل عاملاً ماهراً في كهرباء السيارات بذل نصف عمره يعالج شربكة الضفائر فحفظ توصيلاتها و تداخل اسلاكها ، يجادله الموظف ذو الياقة البيضاء ان الفيوز الذي ادى الي اطفاء شامل لفانوس السيارة الشمال هو بسبب تماس بين سالب البطارية و موجب جسم السيارة ، يجادل و هو الذي كان آخر عهده بالكهرباء هو توصيلات التوازي و التوالي في حصة الفيزياء التي قضى نصفها نائماً ، او في تلك الحادثة الشهيرة التي عندما صعق تياراً كهربائياً ضال ابن الجيران فاسرع الي نجدتهم تحت وطأة صراخ امه فوجده مجندلاً يرمش بسرعة خمسمائة رمشة في الدقيقة فاخذ الخبير الهمام عصا خشبية غليظة اوسع بها الطفل المسكين ضرباً حتى ارداه فاقدا الوعى ثم حملوه الي المستشفى لعلاجه من اثار الضرب المبرح اما الصعقة الكهربائية فكل ما فعلته هي ان قذفت بالطفل بعيداً ، و كان لهذا الخبير الهمام اذا ما ظن ان الخطر ما زال محدقاً و ماحقاً ان يقوم بفصل التيار الكهربائي من مصدره و ينتهي الامر . مثل هذا الشخص يجادل خبير آخر في عمله بان من الافضل فعل كذا لان هذا لا يجدي . و هكذا يفتي الطبيب في الدبلوماسية ، و الاديب في علم الفضاء ، و المهندس في علم القانون و ممارسات القضاء ، خريج الجغرافيا في هندسة الاتصالات .. و من تخصص في التربية و علوم التدريس في علم الامراض و الاحياء الدقيقة ، اما البيطرة فكلنا اختصاصين فيها من لدن امراض الحيوان الذي يمشي علي اربع الي الكائن الذي يمشى علي اثنين و يدفن رأسه في الرمال و يسمى ( نعامة ) ..
سيداتي آنساتي سادتي ما لم نتخلى عن هذا التداخل الشنيع وهذا التدخل الجاهل في شئون مهن لا نجيدها و لا نعلم عنها شيئاً غير ما نسمعه لماماً من اناس ابعد ما يكونوا عن التخصص بل حتى ولو كانوا متخصصين حد الشهادات العليا فلا يكفى ان نسمع منهم مرة واحدة حتى نغدوا خبراء في مجال أطفأوا فيه انوار عيونهم و نصف اعمارهم حتى يبلغوا هذا الشأو في التخصص.
و اعرج في هذا المنحى للحديث عن المهنية و الاحترافية ، و التي هي أصلاً مطلوبة حتى عند ذوي التخصص ، مطلوب اتباع اسس المهنية و قواعد الاحترافية حتي يبلغ العمل – اي عمل- تمامه .
اقول ذلك و اتابع بالشغف كله و الاهتمام احترافية هيئة الاذاعة البريطانية ومهنيتها و هي تعترف بخطأ ارتكبته قبل ربع قرن يتعلق بتقصيرها في توخي النزاهة و الشفافية في تقرير اجرته ، استقال الصحفي الذي ارتكب الخطأ فوراً عن عمله و اطل مدير الهيئة تيم ديفي بكل شجاعة ليعترف بالخطأ و يعتذر .
الخطأ هو ما إستند عليه الصحفى مارتن بشير و هو يجرى تلك المقابلة الاشهر في تأريخ المقابلات الصحفية مع الليدي ديانا و الخطأ هو المعلومات المضللة التي وردت في المقابلة و ادت الي تدهور صحتها النفسية كما قال ابنها الامير وليم ، وانضم اليه شقيقها ايرل اسبنسر حيث قال في تصريحات نُسبت اليه ان الصحفي بشير كذب علي ديانا باختلاقه روايات لم تحدث .الخطأ المنسوب للصحفي كان بيناً وهو ما ورد في حيثيات اتهامه باستخدام مستندات مزورة للحصول على موافقة الاميرة ديانا لإجراء المقابلة المشهورة معه عام 1995 والتي أخرجت للعلن تفاصيل خلاف ديانا مع الامير تشارلز وانهيار زواجهما.
أطل مدير عام هيئة الاذاعة البريطانية و اعترف بالخطأ و اعتذر عن خطأ ارتكبه صحفى يعمل معه في مؤسسته التي يديرها و لم يتذرع بانه لم يك مديراً وقتذاك و لم يختبئ خلف حقيقة أنه كان يدرس في المرحلة الابتدائية عندما ارتكب غيره ذاك الخطأ بل خرج على الملأ باسم مؤسسته و بشجاعة فائقة و اعتذر . مدير الهيئة السابق اللورد انتوني هول و الذي لعب دوراً كبيراً في مساعدة مارتن بشير في اجراء تلكم المقابلة عندما كان مديراً للاخبار عند اجراء المقابلة ، تقدم هو الاخر باستقالته عن عمله في المؤسسة التي يديرها حاليا (رئاسة المعرض الوطني ) بسبب الانتقادات اللاذعة التي تعرض لها بسبب دوره في تلك المقابلة . اما الموقف الشجاع من الهيئة نفسها هو بثها ذلك التقرير الضافي عن الحادثة ( وقد شاهدته عبر شاشة بي بي سي العربية ) حيث تمت الاشارة بوضوح لا تلجلج فيه أين كان الخطأ و كيف تم ارتكابه وبذلت فيه الهيئة من التقريع الخفي لذاتها و عابت علي نفسها الوقوع في مثل هذا الخطأ المهني القاتل و بينت كيف تحول الفخر بالحصول علي سبق صحفي قبل ربع قرن الي خطأ مهنى فادح فيّ راهنها المُعاش تطَلَّب الاعتذار و استقالة مرتكبه ، لحق به مديره المباشر وقتذاك الذي جعله الاحساس بالمسئولية عن ذلك الفعل يستقيل عن مؤسسة يديرها حالياً و لا علاقة لها بالمقابلة او ال بي بي سي .
ربع قرن من الزمان مرت و لم تزل الحاجة “رقية” تجزم ان ابنها عثمان يستطيع صنع ركشة تمشي علي ثلاث ، ربع قرن و ما زال الذي تخصصه هندسة بترول يدلي برأيه في شئون الزراعة و متطلباتها ، ربع قرن وما زال زيدان الكسلان يمد لحيته بعيداً زاعماً عزمه فعل شئ لا يجيده و فوق ذلك لا يستطيعه ، اما الادهي و الأمر فهو حقيقة انه لا يريده . ربع قرن من الزمان كانت كفيلة بجعل هيئة الاذاعة البريطانية تكتشف خطأ مهنى قديم يستقيل مرتكبه ، يعتذر مديرها عنه و تقرع ذاتها في تقرير ضاف عنه .خمسة و عشرون مرت عام فوق عام و كانت كفيلة بان تجعلنا نمارس ذات الاخطاء بالدأب كله ، بالمثابرة كلها ثم لا نتعرف عليها و ان فعلنا فلا نعترف بها ، و إن اعترفنا فلن نعتذر عنها .. كيف نعتذر وقد ارتكبها شيطان رجيم غيرنا يعيش فصام الشخصية في بقعة ثانية اسمها السودان الآخر .

مواضيع ذات صلة

بالواضح.. فتح الرحمن النحاس يكتب: أمريكا أسيرة الكساح السياسي.. وعدو الإسلام وقاتلة للديمقراطية..!!* =================

عزة برس

على مسؤوليتي .. طارق شريف يكتب: أم درمان الصمود

عزة برس

ويسالونك عن ليبيا..بقلم : السفير عبد المحمود عبد الحليم

عزة برس

خبر وتحليل.. ذكرى شهداء الجهاز فى مواجهة إرهاب جبرة والأزهري.. عمار العركي

عزة برس

كتبت هند ود الأحمر الكتيابي: البقع بيناتنا بنسندو!!!

عزة برس

الضوء الشارد ٠٠عامر باشاب يكتب: السودان أكبر بلد عاشق النبي والمناقل (عاصمة المحبة النبوية)

عزة برس

اترك تعليق