المقالات

الصاروخ الصيني.. والوجه الآخر للقصة.. بقلم: علي مالك عثمان

إنتهت أزمة الصاروخ الصيني الذي كان تائهاً في الفضاء بسلام، وذلك بعد دخوله الغلاف الجوي للأرض، وسقوطه في مياه المحيطات، دون أن يشكل أي خطر على منطقة آهلة بالسكان. وهذا الأمر كان متوقعاً، وحدث مراراً وتكراراً لصواريخ فضائية مشابهة في الماضي، وذلك لأن أغلب مساحة كوكب الأرض مغطاة بالمياه، وبالتالي الاحتمال الأكبر لسقوط مثل هذه الأجسام القادمة من الفضاء الخارجي هو أن تسقط في المحيطات.

لكن تضخيم قصة هذا الصاروخ، وحبس أنفاس العالم بمصيره، وتخويف الناس منه، إنما كان مقصوداً لتشويه صورة الصين، وتشويه نهضتها المتسارعة في مختلف المجالات. عرَّاب هذه الحملة ضد الصين هو الغرب، وهي نفس الحملة التي استهدفت فيها أميركا ترامب شركة هواوي قبل فترة وجيزة، ولنفس الأسباب، أي الغيرة ومحاولة وقف التقدم.. فما الوجه الحقيقي الذي تخفيه مثل هذه الحملات؟!

الصين أصبحت خطر حقيقي يتهدد الغرب، ويهدد هيمنته المنفردة على العالم، ليس هذا فقط بسبب تنامي قوة الصين الإقتصادية، وإنما أيضاً بسبب الاختلاف الثقافي الكبير بينها وبين القيم الغربية. وذلك لأن دولاً مثل روسيا واليابان وكوريا الجنوبية، متماهية بدرجة ما مع القيم والثقافة الغربية..

على أن أكثر ما يخشاه الغرب هو أن يحدث تحالف بين الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، يؤدي لتشكُّل محور شبيه بحلف وارسو بعد الحرب العالمية الثانية.. إذا قُـدِّر لهذا الحلف أن ينشأ فإن هذا سيجعل ثقل العالم ينتقل إلى منطقة أوراسيا (آسيا وأوروبا)، وليس ضفتي الأطلسي كما هو حاصل الآن.. وهذا يعني انتقال مركز الحضارة الانسانية على كوكب الأرض من الغرب إلى الشرق.. وهذا التحول في تقديري بدأت ملامح تَـشكُّـلِه الآن، وسيتبلور بصورة أكثر وضوحاً خلال الربع الثاني القادم من هذا القرن الواحد والعشرين..

الصين منذ بداية نهضتها وبروزها كقوة إقتصادية على المسرح العالمي، خلال الثلاث عقود الماضية، لم تكن تطمح للعب دور سياسي كبير على مستوى العالم، ينافس الهيمنة الأمريكية والغربية عموماً عليه، حتى لا تدخل في مواجهة قد تؤثر على نموها الاقتصادي وتبطئ من تسارعه، لأن النمو الصيني كان ولعقود عديدة يتراوح بين ال ٦% و ال ٨ % سنوياً، وهذا من أعلى معدلات النمو الإقتصادية العالمية..

الغرب كان يراقب هذا النمو الإقتصادي الصيني القوي طوال فترة التسعينات والعشرية الأولى من هذا القرن. وكان تقديره أن الصين بعيدة عنه كثيراً جداً، وحجم اقتصادها، ونوعه، ومساهمته في الناتج العالمي الإجمالي في ذلك الوقت كان لا يقارن مع الولايات المتحدة والغرب عموماً. كما أن تفوق الصين كان محصوراً في الانتاج الصناعي منخفض التكنلوجيا، وأن تفوق الغرب التكنلوجي والمعلوماتي الهائل لن يُمكِّـن الصين من اللحاق بهم. يضاف لذلك أن النجاح الذي كان متوقعاً للحروب التي شنها الغرب في منطقة الشرق الأوسط، على عهد المحافظين الجدد أيام جورج بوش الابن، كان هدفه الأول هو محاصرة الصين وروسيا، والسيطرة على منابع النفط، للتحكم والسيطرة على هذا النمو الإقتصادي الصيني المتسارع. وكان أيضاً لقطع محاولات الصين المستميتة لإحياء طريق الحرير لإيصال منتجاتها الصناعية لكل دول العالم وفي فترة زمنية قصيرة جداً. لكن ما لم يكن في حسبان الغرب ونُخَبِه الاستراتيجية هو أن تفشل تلك الحروب في منطقة الشرق الأوسط ولا تحقق أهدافها السياسية التي كان يرجوها منها.. بالتالي قدَّم الغرب ٨ سنوات (خلال فترة حكم جورج بوش الإبن، في الفترة بين أعوام ٢٠٠٠م و ٢٠٠٧م) كانت ثمينة جداً وذهبية للصين، مكنتها من استغلال هذه الغفلة الأمريكية عنها لتحقيق أعلى معدلات النمو الإقتصادي..

الولايات المتحدة بعد إدراكها فشل حروبها في منطقة الشرق الأوسط برزت داخلها أصوات نادت بسرعة التحول الاستراتيجي عن منطقة الشرق الأوسط وتوجيه جهودها نحو بحر الصين الجنوبي، لمحاصرة الصين ووقف نموها الإقتصادي الكبير. تمثلت تلك الأصوات في التقرير الذي عرف بتقرير “بيكر – هاميلتون”، والذي أعدَّته لجنة مشتركة من كبار خبراء الحزبين الجمهوري والديمقراطي عام ٢٠٠٦م، والذي أنتهى لضرورة الإنسحاب من العراق، ووقف حروب الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، والاعتراف بالفشل، والاستعداد لتقاسم النفوذ مع قِـوىٰ إقليمية فيه مثل إيران وروسيا.. لكن كان هنالك في الولايات المتحدة أصحاب رؤوس حامية، رفضوا ما أنتهى إليه هذا التقرير، وزعموا أن الولايات المتحدة يمكنها ربح حروبها في منطقة الشرق الأوسط، وتحقيق أهدافها الرئيسية منها، والمتمثلة في السيطرة على منابع النفط ومحاصرة الصين وروسيا كما ذكرنا، وذلك من خلال استغلال التناقضات الطائفية والمذهبية بين مكونات ودول وشعوب منطقة الشرق الأوسط، وإشعال الحروب فيها، ولكن هذه المرة ليس عن طريق الغزو الخارجي المباشر لجغرافيا الدول الاسلامية (Inter Islam)، كما حدث في حالتي العراق وأفغانستان، وإنما إشعال الحروب والنزاعات داخل مكونات الدول الاسلامية (Intra Islam)، وذلك بتغذية التناقضات الطائفية والمذهبية فيما بينها، وجعلها تتقاتل لدرجة إفناء بعضها البعض. وهذا هو بالضبط مفهوم ما عرف ب”الفوضى الخلاقة”، على أمل أن ينشأ من رحم تلك الفوضى واقع جديد يكون في مصلحة الولايات المتحدة.. لذا كانت الثمان سنوات التي مثَّـلَها حكم باراك اوباما، هي تنفيذ عملي لاستراتيجية تلك الرؤوس الحامية داخل الولايات المتحدة، والتي خالفت توصيات تقرير “بيكر – هاميلتون” الذي أشرنا له.. لكن أيضاً بعد عشرية نارية شهدتها المنطقة، في الفترة بين أعوام ٢٠١١م و ٢٠٢١م، تفشل الولايات المتحدة مرة أخرى في تحقيق أهدافها، وتعلن إنسحابها الواضح من أفغانستان، و في طريق خروجها أيضاً من العراق، وتحاول العودة – وعلى عجل – للإتفاق النووي مع إيران، وكل ذلك لكي تتفرغ مرة أخرى لحصار الصين إقتصادياً، وحصار روسيا سياسياً، ولكن هل نقول ?Too late ، خاصة بعد النجاح الكبير الذي حققته الصين في محاصرة انتشار فيروس كرونا، وعودة إقتصادها مرة أخرى لتحقيق معدلات نمو مرتفعة، بعكس الغرب الذي لا يزال يترنح تحت ضربات هذه الجائحة ولا يعرف طريقاً للخروج منها ومواجهة تداعياتها.

ختاماً ما أودُّ قوله، وبإختصار، هو أن التاريخ سيقف شاهداً على أن النمو الهائل لإقتصاد الصين، والذي سيتحول حتماً لنفوذ سياسي كبير على مستوى العالم خلال المستقبل القريب، إنما تحقق وبصورة مُقدَّرة، نتيجة لإفشال سياسات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.. والسلام.

مواضيع ذات صلة

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: وزير الداخلية والعين القوية !!

عزة برس

خبير اقتصادى: تجار العملة اتجهوا للعمل في مصر وجذب تحويلات المغتربين السودانيين

عزة برس

أجراس فجاج الأرض.. عاصم البلال الطيب يكتب: إبتسام نون النسوة منبرنا للسلام والعدالة

عزة برس

وجه الحقيقية.. السودان بين ديمقراطية العسكر المشروطة و دكتاتورية المدنيين الطامعة. – إبراهيم شقلاوي

عزة برس

بينما يمضي الوقت السيادى في الميدان ( كيفما اتفق).. أمل أبوالقاسم

عزة برس

الهندي عز الدين على منصة “إكس”: ماذا ينتظر عشرات الآلاف من الضباط والجنود المتكدسين في سنار بعد أمر العطا بدخول الجزيرة

عزة برس

اترك تعليق