المقالات

إبراهيم أحمد الحسن يكتب : دمعي الضاحك.. يبكيه

هتف الحاجب قبل عقود ثلاث :
محكمة!
عند المنصة المهيبة، جلس مولانا صلاح برزانة القاضي العادل وثقة العارفين وحكمة العلماء. الصمت المطبق سيّد القاعة، عدا هسيس المروحة المعلّقة على السقف، وحفيف أوراق القضية وهي تتقلّب على يد القاضي.
رفع مولانا صلاح رأسه، ومن تحت النظارة، مسح القاعة التي اكتظت بذوي المتهم والقتيل وهيئتي الاتهام والدفاع والحرّاس وطلاب القانون وأقلام الصحافة. مسحة كانت كافية بأن يسود الصمت المطبق ارجاء المكان.
تحّول القاضي بنظره إلى جهة اليمين، ويقف عندها محامي الدفاع فتحي خليل، وفي اليسار، محامي الحق الخاص صديق كدودة.
جلست غير بعيد عن مولانا صلاح، وتخيّرت موقعاً استطيع أن أرى منه القاعة كلها، وأتابع مجريات القضية، وأرصد خلجات الأطراف جميعاً، صعوداً وهبوطاً حسب سير الدعوى!
كنت مشغولاً بتمعّن الكُتل الفيزيائية التي أمامي، وأتفرس تفاعل كيمياء القضية على وجوهم وأرصد تنوّع سحناتهم وأخمّن دوافع حضورهم في القاعة، وأقرأ خطوط المشاعر البيانية المتأرجحة على سيمائهم، ثم أخفض بصري لأطالع ما سطرّه قلمي عن وقائع الجلسة الفائتة.
حرصت على أن أرى العدالة بعيني والقوانين في حالة التطبيق، لأن “زمامُ أصول جميع الفضائل/ عدلٌ وفهمٌ وجُودٌ وبأسُ”. وقتها، كنت قد أنهيت دراسة كلية الحقوق ، وحزت على شهادة ممارسة مهنة القانون .
وهل هناك ممارسة أمضى أثراً من أن تكون حضوراً يومياً في قاعة محكمة ضاجّة بالناس والحياة وأحداثها والجنايات؟ ممارسة تُنظر فيها امهات القضايا و تبت فيها بقوة العلم و صريح العدالة و صحيح القانون و بقاضي مقيم يقضي القِسْطاس المستقيم و بالميزان العدل و قد أتاه الله علماً وحكمة وحلماً جميلا .
وقف المتهم الذي ناهز الستين عاماً في قفص الاتهام. تميزه أناقة لافتة لا تخطئها العين. جلس أهل القتيل في الصفوف الأمامية من القاعة المحتشدة بمشاعر شتّى وانفعالات صامتة وصامدة، و مصدومة ويجمع بينها الحزن الطاغي والألم الدفين .
على المنصة، جلس مولانا صلاح ببدلة كاملة وربط عنق زرقاء. وعن يمينه الأستاذ فتحي خليل المحامي، وعن يساره الأستاذ صديق كدودة المحامي، وروب المحاماة الأنيق يكسي القاعة مهابة وجلالا. ومن القفص، يضيء جلباب المتهم ببياضه الناصع الذي لا يفلح في امتصاص لوث الثوب الأسود الموغل في الحزن لأم القتيل.
جلس أهل القتيل وأهل المتهم، متجاورين، ويفصل بينهما ممرّ ضيّق في القاعة. وفي أماكن سكناهم، فصل بينهما حائطٌ سميكٌ من القطيعة والبغضاء ونيران الشحناء التي التهمت كل شيء، ومنذ دوي الطلقة المشئومة لم يجمع بينهما سوى هذا الممر الضيق في قاعة المحكمة، لأنّ القتيل كان جاراً للمتهم بـ (الحيطة)، وصديقاً أثيراً لابنه!
وسط هذا الطقس المتلاطم من المشاعر المتباينة، دلف شاهد الخبرة، اختصاصى الطب العدلي إلى قاعة المحاكمة ليزيدها مهابةً على مهابتها ويحبس أنفاسها المتصاعدة.
وقف شاهد الخبرة مديد القامة أمام مولانا القاضي صلاح، وأدلى بشهادته بثقة العالم ومعرفة الخبير. وأجاب بإحكام على أسئلة هيئتي الدفاع والاتهام و سيادة القاضي ، موضّحاً وكاشفاً بالقول الرصين والحجةالدامغة.
كانت مبارة حامية الوطيس بين الأستاذين فتحي خليل وصدّيق كدودة، وكلاهما يبحث عن ثغرة في شهادة الخبير يتسلل منها إلى مبتغاه، والخبير يتلقى كرة السؤال المباغت ويضعها على صدره العامر بالعلم والإيمان، ثم يركلها مجدداً برباطة جأش واتساق مدهش.
تدفق علم خبير، اختصاصي الطب العدلي، الدكتور علي الكوباني على جنبات القاعة، حتى غمرني!
رفع القاضي الجلسة، فقفزت من مكاني لأقف قبالته وأشدّ على يده مزهوّاً به ومعرّفاً بنفسي. سألني الكوباني في أي قضاء أعمل، الجالس أو الواقف؟!
قلت له: محسوبك، تلميذ في مدرسة القضاء. اتعلّم قيام وجلوس.
ضحك بطريقته الممّزة وقال: “دي ما أدّونا ليها. قلت له يا دكتور انا هنا انظر للعدالة من منظور فلسفي درسته في مدرجات الجامعة في تأريخ القانون بحسب مدرسة ارسطو التي لا تعتبر العدالة فضيلة اساسية فحسب انما تعتبرها عمل خيري و تضحية من أجل الاخرين . . قلت له انني دخلت فلسفة القانون من باب هندسة الاتصالات انتهت المؤانسة بيننا الي انه أيضاً سيمضي ليدرس القانون . و قد كان.. درس القانون ونال شهاداته واكتمل علم الطب العدلي عنده مهنة واحتراف في الطب ، وعدالة في ممارسة شهادات خبرة يوطد اركانها في المحاكم بعلم القانون الذي زان عنده “علم الطب”.
مضت الأيام والقاعة كما كل مرّة، تحتشد بالمشاعر الصامتة، وتضج بالسحنات والوجوه. تقطيبة المحامين وصرامة مولانا وهمهمات الحضور. حزن أم القتيل، والألم الذي يعتصر شقيقاته. تعاسة المتهم وشفقة أهله ودموع بناته، ثم الدكتور علي الكوباني باطلالته الباهرة والمبهرة وهو يدلي للمرّة الثانية بشهادته أمام المحكمة.
سأله القاضي:
– كم تقدر المسافة التي انطلقت منها الرصاصة التي أصابت القتيل بالأمتار؟
سؤال مفصلي ومهم، طرحه القاضى وتناوشته بالحواشي والمتون و الاستجواب ، واعادة الاستجواب ، منصة الاتهام ومصدّات الدفاع والقاضي ذاته .كانت إجابات الدكتور الكوباني قاطعة ومحددة، ولم يحتاج القاضى أن يسأله: (أفصح.. أبن). كان الكوباني فصيحاً ومبيناً ومقنعاً. وذات السؤال طرحه القاضي على شاهد الخبرة المختص من الشرطة: كم تقدر المسافة التي انطلقت منها الرصاصة التي أصابت القتيل بالأمتار؟
أجاب المختص، وأجاب الطب العدلي. وتمددت الإجابتين، كل واحدة منها تدلي بحجتها أمام القاضي، ولأن البون كان شاسعاً بين تقدير مختص الطب العدلي، الخبير كوباني وبين مختص الاسلحة من الشرطة، كان لا بد أن يلجأ القاضي إلى إجراء قانوني يحسم به جدال أمر مسافة انطلاق الرصاصة من موقع ارتكاز المتهم، مخترقة باب الشارع إلى أبواب الدم في قلب القتيل لترديه ميتاً وتحرق عليه كبد أمه.
أمر مولانا القاضي صلاح باحضار باب الشارع (المعروضات) مع ذات السلاح الذي تسّبب في جريمة القتل، وأمر باطلاق رصاصة من المسافة التي قال بها الكوباني، ثم المسافة التي قال بها الشرطي المختص!
قارن القاضي الحصيف بين الفتحة التي أحدثتها الرصاصة من مسافة الكوباني ومن مسافة خبير الأسلحة، وطابقها بالفتحة التي أحدثتها الرصاصة القاتلة على الباب، ثم.. قضى وامر برفع الجلسة .
ولن أنس قط، ابتسامة الرضا التي تهللت بها أسارير الكوباني وأشرق بها وجهه عقب الجلسة .
جمعتني قناة النيل الأزرق ذات عيد بالدكتور كوباني في مؤانسة على الهواء، جلسنا في مكتب المدير نتبادل التهاني ونناقش محاور الحلقة، وبجوارنا جلس الضيف الكبير وهو لا يكف عن مشاغبة الكوباني الذي كانت تجلجل ضحكاته وتمتزج بالنيل وتزيد العيد طلاوة.
ستظلّ ضحكات الكوباني الريّانة والتريانة ماثلة أمامي ما حييت، وسيظل مشاغبة اصدقائه له غائرة عندي دليلاً على سماحة الكوباني والضيف الكبير يقول: “انتو قايلين صاحبكم دا شاعر؟ ولا شاعر ولا حاجة، لقى ليهو قصيدة في جيب ميت، ومن يومو عمل فيها شاعر”! ويقيني ان الصيف الكبير ظل يشاغب بها الكوباني كلما التقاه في جمع من اصدقائه ومعجبيه الكُثر .
وضحكنا وضحك علي كوباني، ثمّ ..
مضى إلى جنة عرضها السموات والأرض راضياً مرضياً. مضى إلى حيث الصدّيقين والشهداء. مضى وأمامي أطنان من رسائله الضاحكة في كل المناسبات السعيدة والحزينة.
مضى الكوباني ولم ينقطع التواصل بيننا في كل أحواله وبكل وسائل التواصل، مضى وصداقته السعيدة لم تك سوى نموذجاً واحداً تجاوزني إلى الملايين من أحبابه السودانيين. مضى إلى حيث لا يُظلم أحد عنده “حباً وكرامة”.
مضى وكأن لم يمت قبله كائناً من كان. مضى وكلمات شقيقه صدّيق الكوباني ترن في أذني عند كل مناسبة التقيه فيها: “متواصل مع صاحبك؟ صاحبك وصل البلد”.. ” صاحبك سافر ” و.. إلّا: صاحبك مات. الأخيرة أتتني من كل الشعب السوداني إلا صدّيق أخو الكوباني.
يا صدّيق، ويا آل الكوباني، ويا السودان جميعه من أقصاه إلى أقصاه. ها أنذا أهرع إلى معين حميد، فأقول مثله: “ساق نخلة في الطين الطري/ نازف يفج المقبرة/ قصب التواريخ ينبري/ ودمك عمار المحبرة/ نشهد على إنك ولد/ بركان جسارة وفنجرة/ زي ما شهدنا على أبوك/ فرسان قبيلتك من ورا/ ولدك بخيت ما دام رقد في صدر أبو/ ولدك شفيعنا مع النبي/ ولدك يمين يكفينا كلنا مغفرة”.
صعبٌ، وقد شق عليّ نعيه! بأية لغة أنعيه؟ وبأي المفردات؟ بأي العبارات؟ عجزت وعجزت ثم عجزت، فتركت دمعي الضاحك يبكيه

مواضيع ذات صلة

تقرير: 1140 حالة اختفاء قسري خلال عام من الحرب في السودان

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: دعوها فانها مأمورة ..!!

عزة برس

كل الحقيقة.. عابد سيد أحمد يكتب: استفهامات بريئة جدا ؟!

عزة برس

على كل.. محمد عبدالقادر يكتب: دموع مريم… وهروب حمدوك

عزة برس

تمبور السودان عصي على التركيع وصامد امام اعتى العواصف

عزة برس

استراتيجيات.. د. عصام بطران يكتب: تفسير مفهوم مصطلح (تكنوقراط) انجب مولود مشوه ..!!

عزة برس